توسع التعليم افقيا وعموديا : الاسباب والنتائج
أ.د. مضر خليل عمر
تشكل حالة التردي في المستوى التعليمي ظاهرة عامة ، مهمة جدا وتمس مرافق الحياة جميعها بدون استثناء ، وتتباين مكانيا وزمنيا ، ولها بصماتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية . في المنهج العلمي ، فان دراسة اية ظاهرة يتطلب ، في كثير من الاحيان ، معرفة جذورها و العوامل التي اثرت وتؤثر عليها لتاشير مسار تطورها وصولا الى الحالة الراهنة ، والتكهن بما يمكن ان تكون عليه في المستقبل القريب . ما سيرد في هذا المقال نابع عن ملاحظات و تجربة شخصية بدون اسناد وتوثيق كما هو معتاد في المقالات العلمية .
في خمسينيات القرن الماضي ، كان دوام المدارس ثنائي عدا يومي الاثنين والخميس (صباحي فقط) ، وكان درس المطالعة مهم جدا . وكان كتاب المطالعة ظخم يضم قصصا لها معاني و عبر ، وكنا نعتمده للقراءة في البيت و في العطل الرسمية . كان احب كتاب عند الكثيرين . يضاف اليه الاطلس الذي كان ميدانا لنشاطات عالية الهمة وواسعة في ليالي الشتاء العائلية . وكان درسي الرياضة و الفنية من الدروس المحببة لدى الجميع ، تكملها النشاطات المدرسية المصاحبة لهاتين المادتين . كان الانتماء للمدرسة معبر عنه بتشجيع نشاطات الفرق الرياضية والفنية ودعمها . ولا ننسى الكشافة و رفعة العلم وما يصاحبهما من فعاليات ونشاطات نتشوق لها ونساهم فيها بفعالية . هكذا تبلورت شخصياتنا الفكرية و الشخصية .
وحسب علمي ، ان بعض الميسورين في الريف كانوا يساهمون في : اما بناء مدرسة او تحوير منزل (او مظيف) ليكون مدرسة لابناء القرية . وعند اكمال ابنائهم الدراسة الابتدائية في القرية ، يتجه البعض منهم لارسالهم الى المدينة لاكمال الدراسة الثانوية . وكانوا يتفاخرون بكونهم طلبة في مستوى الثانوية في المدينة . علما بان ابائنا كانوا خريجي الكتاتيب وليس المدارس النظامية ، كذلك امهاتنا . وكان بعض ابناء الريف الدارسين في المدينة يسكن اما عند اقاربه او معارف ذويه ، وفي فندق حال وجوده في المدينة . وكان معظم معلمي المدارس الابتدائية من الحاصلين على شهادة الدراسة المتوسطة .
وفي ستينيات القرن الماضي ، ومع اتساع حركة الهجرة من الريف الى المدينة ، و تضاعف عدد التلاميذ و الطلبة في المدارس اتجهت الدولة الى استحداث دار المعلمين (خريجي الثالث متوسط) و معهد المعلمين (خريجي الخامس ثانوي) ، اضافة الى معاهد تعليم فني و صناعي في معظم المحافظات ان لم يكن جميعها . ومع قيام حملة محو الامية في سبعينيات القرن الماضي جرت مساعي كثيرة و مستعجلة لتاهيل معلمين ليقوموا بالواجب الوطني (دورات مكثفة للراغبين في مهنة التعليم) . والى هذه الفترة الزمنية كان الطالب يعد راسبا في صفه اذا رسب في ثلاث مواد دراسية اواكثر . وفي حال رسوبه سنتين متتاليتين يفصل من الدراسة ، ولكن يحق له الامتحان كطالب خارجي او يلتحق بالدراسة المسائية . وفي حال بلوغه سن الخدمة العسكرية فان لها الاولوية ليعود بعدها لاكمال دراسته . وكان اقصى ما يحصل عليه من مساعدة (خمس درجات) عندما تكون درجاته حرجة .
في هذه الفترة توسع التعليم بشكل كبير ، فعلى سبيل المثال لا الحصر ، كنت مدرسا في متوسطة طارق بن زياد ، و هي تشترك في المبنى مع مدرسة ابتدائية ، منحت اجازة دراسية سنتين ، وعندما عدت للمباشرة بها و جدتها مزدوجة على نفسها في المبنى نفسه و تشترك مع مدرسة ابتدائية في مبنى ثاني . بمعنى اخر ، تشكلت ثلاث مدارس متوسطة بدلا من مدرسة واحدة خلال سنتين فقط لتستوعب تلاميذ المدارس الابتدائية في المنطقة نفسها (الاقليم الوظيفي للمتوسطة) .
وفي عقد الثمانينات ، و مع انشغال البلد في حرب طاحنة ، تأنث التعليم بشكل كبير ، ومهما كانت شخصية المدرسة قوية تساندها ادارة حازمة الا ان السيطرة الفعلية على الذكور من الطلبة كانت صعبة و غير ناجزة كسابق عهدها . وهنا فقد برزت مصاعب اخرى جديدة ، فالرغبة بالدراسة قد تراجعت نسبيا (طالما هناك خدمة عسكرية و حرب قائمة) ، و الحاجة الى تنفيس عن الضغط النفسي جراء الحرب و ضعف اواصر الاسرة و الوهن الذي اصاب سيطرتها على الابناء .
لقد كان للحصار الجائر خلال تسعينيات القرن الماضي دورا كبيرا وظالما و قاسيا جدا على التعليم . فراتب المعلم لم يعد يكفيه ، مما اضطر الكثيرون لاعتماد مهن اخرى اضافية ليعيلوا اسرهم ، وقد انتقلت اخلاقيات المهن الاخرى الى التعليم كسلوكيات كانت مرفوضة سابقا . فالحاجز التربوي بين الطالب و المدرس لم يعد كما كان ، بل استرق ليكون شفافا بما يكفي لتبادل المصالح الشخصية مباشرة وبدون حياء او خجل ، بالتاكيد على حساب المستوى العلمي و الضوابط الرسمية . وحتى هذه فقد تراجعت كثيرا فقد اصبحت النسبة المئوية للنجاح هي المعيار في تقييم الاداء ، و مقدار درجات المساعدة لانجاح الطلبة كبيرة ومتنوعة . وحلت الملازم الدراسية مكان الكتب المنهجية و المحاضرات العلمية الرصينة .
زاد الامر سوء بالتوسع في فتح جامعات اقليمية لا تتوفر لها مستلزمات النهوض بالتعليم فعليا ، بل اداء واجب شكلي و ارضاء المعنيين بنسب نجاح لا معنى لها . ادى هذا الى تخريج افواجا من حملة الشهادات الجامعية (اولية والعليا) بادنى من الحدود الدنيا من التاهيل العلمي و المهني . ففي الوقت الذي كان والده (مثلا) يفتخر بكونه اكمل الدراسة في المدينة ويتبجح بقرائته مؤلفات كتاب عالميين ، لم يعد الابن (ابن المدينة) يفتخر بانه اكمل دراسته خارج حدود مدينته . يعني هذا فيما يعنية ضيق الافق و عدم تحمل المسئولية الذاتية كاملة خارج حدود عائلته ، تكملها ضعف في الدافع للتعلم و تدني المستوى التعليمي . من هنا بدأ الضياع ، ضياع الشخصية و عدم وجود الهوية المميزة التي يعتد بها . ولا ننسى ان الجامعات الاقليمية تتلاعب فيها التيارات المحلية و العادات والتقاليد العشائرية ، وهي عاجزة عن الوقوف في وجه علل المجتمع المحلية وامراضه لتعالجها .
ومع الغزو الامريكي – الايراني للعراق وهيمنة احزاب عميلة على السلطة ، غزى الجامعات حاملي الشهادات المزورة المسنودين من قبل السلطة . هنا لم يبق للمعلم الوطني (ابتدائية – جامعية) اي مجال لابراز وطنيته وحبه للعراق و النهوض به علميا . فالشك ممتد وبتواصل من قبول الشهادة و تقيمها الى النشر والى الترقيات (العلمية) . فالالقاب العلمية قد اصبحت تتهادى على السنة الكثيرين كما هو حال الرتب العسكرية على اكتاف البعض .
ومع الالفية الثالثة ، و الثورة العالمية العارمة و الشاملة في التعليم : منهاجا ، مادة ، طرائق تاهيل ، تطبيقات ، …. الخ ، لم يعد للنظام التعليمي في العراق اي دور في بناء البلد و تاهيل ابناءه للعمل بتخصص و مهنية . فالامر يستوجب وبالحاح اعادة النظر في كل شيء يرتبط بالتعليم و التعلم الذاتي . الاعتراف اولا بان التوسع الكمي في التعليم لم يؤدي الى فرز نوعي ايجابي ، بل قد حقق وبنجاح ساحق سيادة الشوائب و طوفان الزبد و انزواء الدرر . ان الانشغال ، على سبيل المثال لا الحصر ، بتساؤلات مثل : ايها اسهل الجغرافيا الطبيعية ام البشرية ؟ وهل هذا ضمن تخصص جغرافية المدن ام جغرافية الخدمات ؟ وهل نظم المعلومات الجغرافية من تخصص الجغرافيين ام لا ؟ اي بعبارة ادق و اعمق : الاغراق في مناقشة تفاصيل لا تؤدي الى تقدم العلم ولا الى خدمة البلد بالاختصاص ، لهي افضل دليل على تفاهة ما وصل اليه تفكير العاملين في الحقل الجامعي . لنعيد التفكير في ما نفكر به ، جديا و بتجرد و اخلاص وامانة وطنية .