دور الجغرافيا في حل المشكلات المعاصره
أ.د. مضر خليل عمر
المدخل
عنوان رائع جدا ، ليس لمؤتمر علمي (محلي او عالمي) ، على الرغم من الاهمية القصوى لذلك ، ولكن لسلسلة من الكتابات التي تناقش الموضوع بتفاصيل مع تطبيقات عملية و سيناريوهات مقترحة حسب مجالات الدراسة الجغرافية (الطبيعية والبشرية) . ما ساعرضه هنا مدخل ل(بوابة) قلعة كبيرة و واسعة و متعددة المداخل و متشابكة الطرقات المتداخلة مع بعضها البعض في المكان وفي الوسائل وفي الاساليب بشكل تتجاوز تصور الانسان البسيط غير المختص ، و حتى الجغرافي غير المدرك لكنه الجغرافيا و عمق مضامينها وابعادها .
لا اناقش هل الجغرافيا (علم) فهذا السؤال قد اكل عليه الدهر وشرب فقد اصبحت للجغرافيا كعلم اقساما ومعاهد ومدارس فكرية معترف بها عالميا . السؤال المطروح هنا : كيف نستثمر المعرفة الجغرافية لتطوير علم تطبيقي عملي يخدم المجتمع من خلال دراسة المشاكل المكانية التي يواجهها ، و اقتراح المعالجات والحلول المناسبة لها (مكانيا وزمانيا) .
في البدء من الضروري ان نتفق على ان :
- العلم مبني على القياس و التقويم ،
- اي مشكلة لها مكانها وزمانها الذي حدثت فيه ،
- الجغرافيا تدرس المكان ، ومشاكله ، من الجانبين الطبيعي والبشري و تكاملهما فيه ،
- ان اي شيء مرتبط بكل شيئ (قانون توبلر) ،
- نحن نعيش في نظام بيئي مفتوح Open Environmental System تتفاعل عناصره (مكوناته) مع بعضها البعض و تتاثر بكل صغيرة وكبيرة تحدث في اي جزء منه . بمعنى : حيثما تحدث مشكلة جراء عمل البشر حينها تكون النتائج طبيعية ، وبالمقابل فان الطبيعة بدورها عندما يختل توازن نظامها الذاتي جراء نشاط الانسان تنتفض وتعمل على اعادة التوازن الى حالته ، والذي يتاثر بنتائجه الانسان بشكل مباشر . فالانسان ونشاطاته غير الموزونة تؤدي الى اضرار في الطبيعة و يتحمل المجتمع البشري نتائج رد فعلها .
العلم قياس وتقويم
لكل تخصص علمي مفاهيمه ومقاييسه التي يعتمدها في دراساته و تقويمه لما يدرسه في ضوء معايير محددة مسبقا . واي مشكلة (طبيعية ام بشرية) لابد من وجود اسباب لها ، وكذلك وجود عوامل ساعدت وساهمت في وجودها ، و ايضا هناك عوامل تعمل على ادامتها و تاجيجها . وجوهري وجود مقاييس ومعايير يقاس بها حجم المشكلة وابعادها الانية والمستقبلية . ولكل ظاهرة (طبيعية ام بشرية) دورة حياة ، ومعرفة حجمها وحالتها الملموسة يحددان موقعها ضمن دورة حياتها . بمعرفة الاسباب و العوامل و تحديد الحجم و توقع مسار المشكلة حينها يتسنى للباحث الحصيف اقتراح المعالجات (العلاجية و الوقائية) المناسبة لها .
مكان المشكلة وزمانها
الجغرافيا معنية بدراسة المكان و تنظيم فضاءه ، وهي رباعية الابعاد : المساحية (طول وعرض) ، فضائية (عمودية) و زمنية . والجغرافيا تدرس التباين المكاني في زمن محدد ، و تدرس تباين اثر الزمان ودوره في تشكيل المكان . بمعنى ان الجغرافيا تدرس التباين افقيا (مكانيا) وعموديا (زمنيا) . وعملية التغير \ التباين هذه مستمرة افقيا وعموديا في الوقت نفسه نتيجة تباين مراحل دورة حياة مكونات المكان وعناصره . فكل شيء متغير وليس هناك ثبات على حالة واحدة نهائيا . ((المصطلح المعتمد لوصف هذه الحالة Kaleidoscope – الصورة المتحركة )) لذا من شروط الخريطة الجغرافية ذكر الزمن (تاريخ المعلومات المثبتة في الخريطة) اضافة الى مقياس الرسم ورموز بقية عناصر مفتاح الخريطة .
تكامل الجغرافيا
الجغرافيا هي جغرافية المكان بعناصره الطبيعية و البشرية ، واي فصل بين الاثنين هو اخلال وانتقاص من قيمة الجغرافيا كعلم . اما الجغرافيا كمعلومات ، فهذا فهم سائد بين من لا يدرك عمق الصلة بين الانسان والطبيعة . قيل ان النبات يمكن ان يعيش بدون انسان ، ولكن الانسان لا يمكنه العيش بدون نبات . والنبات نتيجة طبيعية لتفاعل عناصر الطبيعة : تربة و ماء و هواء ، بمعنى اخر لا يمكن للانسان ان يعيش بدون الطبيعه ، و دراسة الانسان في المكان لا معنى لها بدون دراسة الطبيعة في المكان نفسه . وان دراسة الطبيعة لذاتها غير ذات فائدة طالما انها لا تمس الانسان وحياته على كوكب الارض . فالعلاقة بين الانسان و الطبيعة ازلية متاصلة ، وهي روح الجغرافيا وعمودها الفقري . فعند دراسة اي مشكلة مكانيا ، طبيعية او بشرية ، لابد من النظر الى الاسباب و النتائج المترتبة على الطرفين : الانسان والطبيعة .
((لمزيد من التفاصيل يرجى الاطلاع على المقال الاتي :
https://www.muthar-alomar.com/wp-content/uploads/2022/09/WhoWe.pdf
قانون توبلر
((أول قانون للجغرافيا وفقًا لـ والدو توبلر هو ” كل شيء يرتبط بكل شيء آخر ولكن الأشياء الأقرب ترتبط أكثر من الأشياء البعيدة” . تم تضمين هذه الملاحظة في نموذج الجاذبية لتوزيع الرحلة . ويرتبط أيضًا بقانون الطلب ، فالتفاعلات بين الأماكن تتناسب عكسيًا مع تكلفة السفر بينهما والذي يشبه إلى حد كبير احتمال شراء كمية من البضاعة الذي يتناسب عكسيًا مع التكلفة . ويرتبط أيضًا بأفكار قانون الجذب العام لـ إسحاق نيوتن وهو مرادف بشكل أساسي لمفهوم الاعتمادية المكانية الذي يشكل أساس التحليل المكاني .)) (منقول عن ويكيبيديا) . وقد قيل بان ما يحدث في اصغر قرية جنوب السودان تنعكس نتائجة على حي مانهاتن في نيويورك . جاء هذا نتيجة النظر للكرة الارضية كنظام بيئي متكامل ومتفاعل مع بعضه البعض ، يعيش فيه الانسان ، يؤثر فيه ويتاثر به بالمقابل . انها بداية منطلقات العولمة التي نعيشها اليوم .
بيئة كوكب الارض
نعيش في كوكب هو عنصر من عناصر منظومة الكون ، يتاثر بما يحدث في هذه المنظومة ، و في الوقت نفسه فانه اكثر تاثرا بما يحدث فيه ، ((كل عنصر من عناصر الكون يشكل منظومة بحد ذاته وفي الوقت نفسه هو احد عناصر منظومة اكبر)) ، و للانسان دور كبير في كل ما حدث ويحدث لبيئة هذا الكوكب . لذلك تميل الدراسات العلمية ، والجغرافية منها على وجه الخصوص ، الربط بين مستويات Scales الدراسة ، فما يحدث في المستوى الدقيق Micro له انعكاسه على المستوى الكبير Macro ، وما يحدث على المستوى الكبير له تاثيراته على ادق المستويات . وفي الغالب ، تدرس الانماط Patterns على المستوى الكبير والمتوسط ، وتدرس العمليات Processes على المستوى الادنى . ((للمزيد من التفاصيل عن هذا ينظر لطفا
https://www.muthar-alomar.com/wp-content/uploads/2022/09/TwoVistas.pdf((
وماذا بعد ؟
يتضح مما ذكر أنفا ان الجغرافيا (صعبة و معقدة ، وان دراساتها مترابطة مع بعضها البعض بالمقياس وبالاختصاص الدقيق ، وعلى تماس مباشر مع تخصصات العلوم الاخرى التي تدرس بعضا من جوانب الطبيعة وتلك التي تدرس الانسان ونشاطاته المختلفة) . لذلك نرى ان مدارسها الفكرية في العالم المتقدم تكون مكانيا في الغالب حيث التخصصات الاخرى المشتركة : علوم الارض ، العلوم الاجتماعية ، العلوم الاقتصادية ، العلوم السياسية ، العلوم البيئية ، التخطيط والتنمية ، العلوم المكانية .
وبتطور نظريات وتقنيات العلوم الاخرى ، التي اخذ الجغرافيون منها الكثير Surrogate ، وبتنامي قواعد البيانات المكانية Location Oriented Data – Spatial Data Base وقواعد البيانات الجغرافية Geographic Data Base والتقنيات المكانية Spatial Techniques اصبح لزاما تطوير البحث الجغرافي والارتقاء به لتكون له قيمة اجتماعية – علمية ، ولكي يساهم الجغرافيون بشكل فعلي وعملي في رسم السياسات المكانية Area Based Polices لمعالجة المشكلات الطبيعية والبشرية على حد سواء . وللتذكير فقط فان اسس البحث العلمي قد درسناها في السنة الثانية والثالثة من الدراسة المتوسطة ، في مادة الهندسة (النظريات الهندسية) . عرفنا حينها ان هناك :
- منطوق النظرية ،
- الهدف ،
- المطلوب اثباته ،
- النتيجة .
ولان طريقة التعليم ركزت حينها على حفظ المعلومة ، وحيث كانت الدراسة من اجل النجاح في الامتحان فقط ، لذا لم نستثمر معرفتنا هذه في حياتنا العملية ولا الدراسية . فمنطوق النظرية راجع الى النظريات ذات الصلة بموضوع البحث ، (نظريات التركيب الداخلي للمدينة – مثلا) والهدف الاستراتيجي هو اما اثبات صحة النظرية او بطلانها ، (تطابقها مع الواقع الراهن في هذا المكان) ، والمطلوب اثباته يشكل الاهداف الثانوي و الوسائل التي يتم من خلالها تحقيق الهدف الاستراتيجي . اما النتيجة فهي ما نسعى جميعا للوصول اليه بطرائق منوعة و مسالك متعددة .
المؤتمر معني بالمشكلات المكانية ، على اختلاف انواعها ، و ال كيفية التي وجد الجغرافي معالجات لها . ان تبادل الرأي و وجهات النظر في هذا الخصوص هي التي تعطي المؤتمر قيمته الحقيقية ، وياخذ من خلالها بعدا علميا اكثر عمقا من مجرد تقديم اوراق بحثة على هامش هدف المؤتمر الرئيسي .
والله ولي التوفيق