التعليم العالي في كف عفريت
أ.د. مضر خليل عمر
شكلت حالات الاعتداء المسلح على المعلمين و المدرسين و التدريسيين والمؤسسات التعليمية ، ظاهرة غير مسبوقة في تاريخنا المعاصر ، حيث اتسع مداها من الجنوب الى الشمال . علميا ، الظواهر الطبيعية والبشرية لها جذورها وامتداداتها ، كما لها ارضها التي تساعد على ظهورها و تراكمها ، وبالمحصلة النهائية تحولها الى حالة عامة . وفي الغالب فان الاسباب تكون معلومة عند ذوي الاختصاص ، للكثير من الظواهر الطبيعية والبشرية ، وكذلك نتائجها الانية و البعيدة المدى .
دفعني هذا الاعتقاد الى البحث عن جذور التردي في المنظومة التعليمية برمتها ، فالظواهر (الكبرى والخطير منها بالذات) لا تظهر فجأة ، بل لابد من مؤشرات و حالات سابقة تمت معالجتها عند حدوثها (في بعض الاحيان) . اما الارضية ، ارضية التعليم العالي فقد اصبحت رخوة منذ تسعينيات القرن الماضي بسبب الحصار الجائر على العراق . لم ابحث في الادبيات السابقة لادعم هذا الرأي ، بل مراجعة بسيطة وسريعة لابرز ما عشته من حالات سلبية في التعليم العالي ، حيث امتدت خدمتي الجامعية من 11\1979 حتى 3\2013 ، وعملت في جامعات مختلفة : البصره ، تكريت ، ديالى ، و كمحاضر خارجي في جامعتي بغداد و المستنصرية و نسبت الى جامعة كويا عامي 2006 و 2007 . الحالات التي سيتم ذكرها هنا مرتبة حسب صنفها وليس حسب تتابعها الزمني أو اهميتها او درجة خطورتها .
غياب الامانة العلمية : عند مناقشة طالب ماجستير ، كان عندي شك كبير في مصداقية الدراسة الميدانية ، ولكن موقف رئيس اللجنة ودفاعه عنه بشدة ، وللظرف السياسي العام آنذاك وافقت على منحه الشهادة . والغريب ان رئيس اللجنة هذا (وهو من جامعة اخرى) اخبرني بعد مدة انه التقى بالطالب ، وقد اعترف الطالب بانه كتب نتائج الاستبيان في بيته دون اي عمل ميداني . هذا الطالب ، يحمل الان لقب استاذ في الاختصاص .
كلفت بمناقشة طالب دكتوراه ، وكانت لجنة المناقشة والطالب من محافظة معينة نفسها عداي (غريب عنهم) ، وعند مناقشة الزملاء للطالب كانت بمنتهى الدبلوماسية و الرقة ، وعندما عرضت النقاط العلمية التي وجدت فيها خللا كبيرا قام احد الحضور وقال ((والله استاذ صوبته بالليزر)) . و عندما اختلت لجنة المناقشة قال احدهم (بعد ما طرحه الدكتور لا نستطيع عمل اي شيئ) . فتم تاجيل منح الشهادة ستة اشهر . وهو الان بدرجة استاذ .
في جلسة خاصة مع رئيس لجنة الترقيات العلمية سالته عن كيفية ترقية (س) الى مرتبة استاذ مساعد ، فضحك وقال حتى يستفيد من مكرمة منح التدريسيين حاسبة بسعر الكلفة من الاسواق المركزية . قلت له وهل تعتقد انه سيتعلم استخدامها ، اجاب بالنفي ولكنه يستفيد عند بيعها . قلت له انت اعرف بان لقب استاذ مساعد يخوله التدريس والاشراف في الدراسات العليا ، فهل هو مؤهل لهذا ….. ضحك كثيرا وقال (هو خلي يدبر الاولية اولا) .
وفي جامعة اخرى تحاورت مع احد الاساتذة مستفسرا عن احدهم وكيف نال لقب الاستاذية ، ضحك وقال انا احد المقومين ، سالته وهل كانت الابحاث المقدمة ترقى الى الاصالة ، اجاب كلا ولكن (حتى نخلص من لسانه) . ومما علمته عن هذا الاستاذ (الذي تمت ترقيته الى الاستاذية) أنه لا يوقع على رسالة او اطروحة الا بعد ان يصل ((كبش)) الى منزله ، واكد ذلك لي احد الطلبة الذين ناقشهم مستلم الكبش .
من حاورتهم حول الترقيات العلمية هم من الاساتذة المعروفين باختصاصهم و علميتهم ، واكن لهم الكثير من الاحترام ، و كان استفساري عن اشخاص اعرف قدراتهم (العلمية) حق المعرفة ، لذا لم اعد استغرب من العدد الهائل من حملة لقب استاذ ، اغلبهم لا يدرك معنى الاستاذية ولم يصل حتى الى اذيالها . وما قيل عن الترقيات العلمية ينطبق ايضا على تقيمات الابحاث للنشر و مناقشات الرسائل والاطاريح .
مناقشة الرسائل والاطارح حفلة يتكفلها الطالب ماديا بما فيها وجبات الاكل السفري التي تؤخذ من قبل البعض والهدايا . و سمعت بان البعض يطلب بلسانه وبدون خجل نوع الموبايل او الهدية قبل المناقشة . وقد حدث في بعضها ممارسات عشائرية . فلا غرابة عندما تتحول حفلات التخرج الى (ديسكو) على ارض الجامعة .
التزلف السياسي : ((اللواكة وماسحي الاحذية)) كانت كلية الاداب في جامعة البصره تعتمد نظام المقررات ، وهو نظام تعليمي يعطي فرصة للطالب ان يتخصص من الدراسة الاولية ويختار المواد العلمية التي تؤهله للعمل في مجال محدد . وفي السنة التي اقرت الكويت تطبيق هذا النظام على ثانوياتها الغي في العراق بناء على رأي ((البعض)) ان نظام المقررات لا يساعد على تحديد (ساعة الحزب) !!!!!
قدمت وزميلي رؤساء اقسام الجغرافيا في كليتي الاداب – بغداد (د. فلاح شاكر اسود) و جامعة صلاح الدين – اربيل (د. خليل اسماعيل) طلبا الى الوزارة لجعل النظام فصلي يتم التخصص به من السنة الثالثة ((موائمة بين النظام السنوي و المقررات)) . وتمت استضافتنا في اجتماع هيئة الرأي ، و كانت مناقشات السادة رؤساء الجامعات واعضاء الهيئة غير منطقية و هجومية ، وفي المحصلة النهائية القرار انه لا يمكن ان تكون هناك جامعة او كلية فيها نظامين في وقت واحد . الغريب ان جامعة بغداد تعتمد هذه الحالة مع كلية التربية الرياضية انذاك حسبما اعلمني احد الحضور بورقة دفعها لي . رفض طلبنا ولكن بعد سنتين تغير الامر بقرار سياسي ، لماذا وكيف ؟ الله العالم .
التوسع اللامعقول : ارادت الجامعة التي كنت اعمل بها استحداث كلية تربية للبنات ، واخترت كاحد اعضاء لجنة التاسيس . وفي اول اجتماع ترأسه عميد كلية التربية بدات الحديث باني لست الشخص المناسب لهذه المهمة لاني اعارضها بشدة . سألني السيد العميد عن السبب قلت : الان عندنا قسمين جغرافيا ، استحداث قسم ثالث يعني اخذ تدريسيين من القسمين ، وهما في الاساس يعانيان من نقص في الملاك التدريسي ، بمعنى سيكون في الجامعة ثلاثة اقسام جغرافية (عرجاء – كسيحة) . نقل السيد رئيس اللجنة الراي الى مجلس الجامعة فالغي القرار .
تعد الجامعات مراكزا حضارية وتشكل اساسا اقتصاديا للمدن التي توجد فيها ، وكثيرا ما اتسائل مع نفسي ، هل حققت جامعات المحافظات هذا الهدف ؟ وهل توسعها الافقي (كليات واقسام) و العمودي (دراسات عليا) حقق المطلوب ؟ القصد ليس الكم من الانتاج ولكن النوع . في اعتقادي هناك عقدتين تحولان دون ان تحقق الجامعات الاقليمية دورها بفاعلية .
اولا : نزعة التملك والتمسك بالموقع (اداريا) ، فعميد الكلية يرى منتسبي الكلية (تدريسيين وموظفين ) ملكا للكلية وليس للجامعة ، وكذلك رئيس القسم . المنظور ضيق جدا دون التفكير بالمصلحة العامة والارتقاء بالجامعة وبمستواها العلمي . فالنجاح شخصي ، والعمل فردي ، وتسخير من هم في المعية للصالح الخاص وليس العام . ويتضح ذلك بتحويل النشاطات العلمية الى استعراضات اعلامية ومقابلات للمسئولين عن النشاط (بالاسم) . وعندما كنت عميدا عرضت على مجلس الجامعة استحداث عمادة للدراسات العليا لتاخذ على عاتقها تنظيم الدراسات المشتركة والمتداخلة التخصصات ، رفض العمداء ذلك جميعا قائلين : تريد تاخذ من عندنا الدراسات العليا ؟
ثانيا : ان الكثيرين من الملاك التدريسي في هذه الجامعات لم يتعود على السياقات الاكاديمية الصحيحة ، فهو بين مسلكي (انتقل من التعليم الثانوي) او خريج الجامعة نفسها . فهو لم يتعرف على الاصول الجامعية القويمة كتدريسي او موظف اداري ليمارسها .
سؤال يرد الى ذهني بين الفينة والاخرى ، عندما يدرس شخص ما في الابتدائية والثانوية والجامعية (سواء الاولية او العليا ايضا) في المدينة ذاتها ومع الزملاء انفسهم ، كيف ستتبلور شخصيته ؟ ما هي مساحة افقه الشخصي ؟ والعلمي ؟ وما هي طموحاته ؟
اثر المجتمع على الجامعة : جغرافيا درس اثر المكان على الانسان ، كما درس اثر الانسان على المكان ، وعرف ذلك بجدلية المكان الاجتماعية . لعلماء الاجتماع دور بارز في هذا الموضوع . السؤال هنا عن دور الجامعة في اعادة تشكيل الموقف الاجتماعي في اقليمها الوظيفي ، و عن اثر المجتمع بقيمه وتقاليده على السلوك الجامعي (اداريا واجتماعيا) ؟ اعرض هنا بعض الحالات التي عشتها خلال عملي الجامعي .
كرئيس قسم اتابع (الماستر شيت) ، لاحظت ان عددا من الطلبة متفوقين جدا بمواد العلوم التربوية وفي الوقت نفسه لم ينجحوا بمواد الاختصاص (الجغرافيا) ، تحققت من الامر فتبين انهم واستاذ المادة من القرية نفسها . اخذت صفحة درجات القسم الى العميد وقلت له : اذا كانوا فعلا متفوقين في التربويات فالافضل ان ينقلوا الى قسم العلوم التربوية . سالني عن ما اريده فعلا ، قلت الاستاذ (فلان) لا يقوم بالتدريس في قسم الجغرافيا ، طالما انا رئيس قسم . وتمت الموافقة واستبدل التدريسي .
كعميد كلية جائني رئيس احد الاقسام العلمية يطلب مني الموافقة على نقل طالب من قسم الى آخر ، وقلت له لقد ناقشنا اسس الانتقال ، ولرئيس القسم المعني الحق في صياغة شروطه و مطاليب قسمه ، وقد اقر مجلس الكلية ذلك في الاجتماع . قال لي : ماذا اقول لشيخ العشيرة الذي جائني بالامس وقد وعدته ؟ قلت : قل له يقول العميد عندنا ضوابط جامعية ، وتعليمات وزارية نسير عليها ، واذا اخذنا برأي رئيس عشيرتك و روساء العشائر الاخرى فلا حاجة لنا لا بمجلس الكلية ولا الجامعة ولا الوزارة .
جائني احد الزملاء يطلب مني الموافقة على ان اكون ضمن هيئة التاسيس لاحدى الجامعات الاهلية ورفضت ، وبعدها جائني يطلب مني ان اكون ضمن الملاك الوظيفي للجامعة . سألته ، قل لي بريك ، هل يتدخل المستثمر بقرارات الكلية ؟ قال نعم ، قلت اعطني مثلا لذلك ، قال كنا نناقش حالة تدريسي ، وكان الامر يستوجب الترقية العلمية له ، فانبرى المستثمر قائلا : كتاب الترقية كاي كتاب اخر يطبع و يوقع ؟!!!!! من هالمال حمل جمال ……
الجامعة بمراكزها العلمية : كنت عضو هيئة البحث العلمي ، وكنت اجيز لنفسي ان انقل بعض الحالات التي اجد ان جامعتي يمكن تستفيد منها من استحداثات ، وكنت اعرض ذلك على المساعد العلمي ليطرحها في مجلس الجامعة ، ولم يتحقق اي شيئ منها ، فقد بقيت الجامعة تعليمية بدرجة مقيتة . بل بالعكس حوربت وحدة الابحاث المكانية عن سوء فهم دون التمييز بين الوحدات الادارية والوحدات العلمية ، وحوربت عن قصد لتكون مختبرا تدريسيا الى قسم الجغرافيا ، والادهى انهم لم يدركوا معنى وقيمة العمل البحثي المتداخل التخصصات . ان توجه العلم عالميا نحو الابحاث التي تنجز من فرق عمل متداخلة التخصصات ، موضوعات البيئة ، التنمية ، التغيرات المناخية ، الجريمة ، الفقر وغيرها جميعا موضوعات عابرة لحدود التخصص الضيق وجميعها ذات ابعاد مكانية .
امتدادا لما ذكر آنفا ، و بتعاظم هيمنة القوى الاخرى في المجتمع ، الرسمية وغير الرسمية ، فان التعليم العالي في كف عفريت ، تتجاذبه الاهواء و المصالح ، ف (العلم) في واقعنا الراهن ان هو الا ارجوحة يتسلى بها من لا يعرف من العلم الا العنوان ، ان عرف نطقه بصورة سليمة . ان ذكر الجوانب السلبية لا يعني عدم وجود جوانب مشرقة و واعدة ، بل هي كثيرة جدا ، قد افرد لها مقالا اخر . وهل هناك من امل في التغيير ؟ نعم عملية جراحية ضرورية في عصر العولمة و تقنياته وسباقه نحو المستقبل .