على هامش مؤتمر جامعة كركوك
عقد قسم الجغرافيا في جامعة كركوك مؤتمره الثاني للفترة 15-16\3\2023 ، وكان مؤتمرا مميزا بصدق ، وذلك لجمعه في مكان واحد نشاطا اجتماعيا – ثقافيا – علميا . حفزني ما حواه المؤتمر من فعاليات ، و ذكرني بما قمت بترجمته سابقا من موضوعات في جغرافية ثقافة المجتمع و حضارته ، ان اكتب هذا المقال . فالجغرافيا هي دراسة الأرض والناس فيها ، أما الثقافة فهي مجموع المعارف والمواقف والأنماط السلوكية المعتادة التي يتشاركها ويتناقلها أعضاء المجتمع ، فالجغرافيا والثقافة مترابطان . الثقافة – الحضارة culture هي الطريقة الكلية للحياة التي تميز مجموعة من الناس عن غيرها . إنها من أهم الأشياء التي يدرسها الجغرافيون . هناك الآلاف من الثقافات (الحضارات الفرعية sub-culture) على كوكب الأرض اليوم وكل منها يساهم في التنوع الثقافي العالمي .
تشمل المكونات الثقافية في الغالب : الدين ، واللغة ، والعمارة ، والمطبخ ، والتكنولوجيا ، والموسيقى ، والرقص ، والرياضة ، والطب ، واللباس ، وأدوار الجنسين ، والقانون ، والتعليم ، والحكومة ، والزراعة ، والاقتصاد ، وقيم الاستمالة ، والعمل ، والأخلاق ، وآداب السلوك ، سياقات الخطوبة والاستجمام والإيماءات ، على سبيل المثال لا الحصر . بسبب الاختلافات الثقافية التي لا حصر لها ولا عد فقد تميز الناس والأرض التي يقطنونها في جميع أنحاء العالم ، وبهذا جاءت الحاجة للتركيز على هذا المجال الفرعي من الجغرافيا . ومن ثم ، فإن الموضوع المكرس لدراسة الثقافة قد سمي بشكل مناسب باسم جغرافية الثقافة والحضارة . في الجوهر ، انه دراسة العلاقات المتبادلة و التفاعل والتكامل بين البشر والمكان . ([i])
تدرس جغرافية الثقافة والحضارة :
– نظريات الهيمنة الثقافية أو الاستيعاب الثقافي عبر الإمبريالية الثقافية .
– التمايز الثقافي ، كدراسة الاختلافات في طريقة الحياة، التي تشمل : الأفكار والمواقف واللغات والممارسات والمؤسسات وهياكل السلطة ، ومجموعة كاملة من الممارسات الثقافية – الحضارية في المناطق الجغرافية .
– دراسة مظاهر الارض الثقافية والبيئة الحضارية للمجتمع المحلي .
– تشمل موضوعاتها الأخرى : الشعور بالمكان ، والاستعمار ، وما بعد الاستعمار ، والعالمية ، والهجرة ، والسياحة البيئية .
ومصطلح المشهد الثقافي يقصد به المظهر الطبيعي الذي تم تعديله بواسطة الأنشطة البشرية ويحمل بصمة مجموعة ثقافية أو حضارة مجتمع بما في ذلك المباني والأضرحة واللافتات والمرافق الرياضية والترفيهية ، الهياكل الاقتصادية والزراعية وأنظمة النقل وما إلى ذلك فوق ذلك الموقع . اليوم ، تقع أيضًا الشقق الشاهقة ، والصومعة ، وعلامة التوقف ، وملعب الجولف ، ومراكز التسوق ، والسكك الحديدية ، والاهرام ، وزيت ديريك ، ومناطق المزارع تحت جوانب المشهد الثقافي . (المصدر نفسه)
تعرض الاماكن وتبايناتها التفاعلات بين ثقافة المجتمع والبيئة المادية ، وعادةً ما تنشأ الثقافة وتتطور في مجموعة كبيرة ومتنوعة من البيئات المادية التي تختلف في المناخ والغطاء النباتي الطبيعي والتربة والتضاريس . في مثل هذه البيئات الطبيعية المتنوعة ، طور البشر استراتيجيات ت كيفية لتلبية احتياجاتهم من الملابس والغذاء والمأوى . فكانت النتيجة عالم حرفي من الاختلاف في أنماط الملابس والمواد التي صنعت منها ؛ إنتاج وتحضير واستهلاك الأطعمة ؛ والأساليب والمواد المعمارية التي تحدد المأوى البشري . غالبًا ما يساعدنا مفهوم البيئة الثقافية على فهم المشهد الثقافي بشكل أفضل . تركز البيئة الثقافية على التفاعل بين ثقافة المجتمع المحلي والبيئة في الماضي والحاضر.
توجه دراسة جغرافية الثقافة والحضارة للتركيز على دور الثقافة في تشكيل الأماكن والمناطق والمظاهر الحضارية . تُعنى جغرافية الثقافة والحضارة بإدراك الأشخاص للأماكن التي يشغلونها من خلال تحليل العمليات الثقافية ، والمظاهر الارضية الحضارية ، والهويات الثقافية . ويشرح موضوع الثقافة – الحضارة من منظور جغرافي ، مع التركيز على كيفية عمل الثقافات في مكانها وكيف يتم تضمينها في الحياة اليومية . إنه يمنح الطلاب تقديراً ليس فقط ل كيفية التعبير عن الثقافات والحضارات جغرافياً ، ولكن أيضًا كيف أن الجغرافيا هي عنصر أساسي في دستور الثقافة والحضارة . (المصدر نفسه)
يفتح النهج الثقافي وجهات نظر جديدة و أصلية على المشهد الحضري . غالبًا ما تبقى المواقف الريفية في بعض أجزاء المدن الكبرى بالذات . تشكل المجموعات العرقية أو الدينية الأحياء السكنية الأصلية كما هو الامر مع : الحي اليهودي في ريو دي جانيرو أو قرى السكان الأصليين في المدن الأسترالية ، على سبيل المثال . تعلم سكان الحضر استخدام أسواق الأراضي والعقارات كأدوات مضاربة عندما تجاوزت الآفاق التي توفرها قيم الأراضي تلك الخاصة بالأسهم الصناعية ، أو كما في ساو باولو في القرن التاسع عشر ، تلك الموجودة في سوق العبيد . ([ii])
تمنح الهويات المكانية الأفراد والجماعات الاتساق الذي لا يمتلكونه بشكل طبيعي وتمنحهم قدرًا من الاستمرارية . فغالبًا ما يكون الارتباط الذي طورته المجموعة مع المكان الذي تعيش فيه والذي تعده خاصًا بها هو الأصل الرئيسي لاستقرارها الرمزي : ومن هنا تأتي أهمية الجذور والذاكرة والأقاليم في جغرافية الثقافة . عندما تقطع الهجرة الروابط المنسوجة طوال الوقت مع المكان الذي عاش فيه الناس ، فإن الحاجة إلى استعادة هذه العلاقة رمزياً تكون شديدة ، كما يتضح من الأمثلة الأرجنتينية . فقد يتجسد الميراث الذي يعطي معنى لحياة الأفراد والجماعات في أرض عذراء ، ويتم التعبير عنها من خلال ممارسة الأعياد أو طبعها في المظاهر الارضية الحضارية . (المصدر نفسه)
أنثروبولوجيا الفضاء (فضاء المكان) آخذة في الظهور: فهي تؤكد على وجود التناقض بين ما هو خاص وما هو عام ، وما هو دنس وما هو مقدس ، بين الجوانب المحلية للحياة وتلك التي تسمح للأفراد أو الجماعات بالتعبير عن أنفسهم والمشاركة في المنافسة من أجل الإقرار العام والمكانة (الاجتماعية و السياسية) . فالفضاء ، كما تم تحليله بواسطة الدراسات الثقافية ، مليء بالتاريخ . تختلف الذاكرة الحية للمجتمعات التي تعتمد حصريًا على الشفهية عن الذاكرة التاريخية للمجتمعات القائمة على الكلمة المكتوبة . في المجتمعات العالمية التي ولدت من ثورات النقل السريع والاتصالات ، فقدت البيئات المحلية جزءًا مهما من المعنى الذي كانت تتمتع به في الماضي . فالسكان أكثر حساسية للتواجد العالمي المشترك للثقافات التي أنشأتها الظروف الجديدة للنقل والاتصالات أكثر من حساسية رسائل التقاليد المنقولة عبر المظاهر الارضية . (المصدر نفسه)
النهج الثقافي له بُعد زمني أساسي : فهو يوضح كيف يتلقى الناس ميراثًا من الماضي ، وأثراءه من خلال تجربتهم الحالية ويحاولون إعطاء معنى لحياتهم من خلال إسقاطها في المستقبل . إن بناء الذات وتنمية الشخصية هما موضوعان مهمان في هذا المنظور . يجب دائمًا تأشير علاقة الفرد بمجموعته : العالم الذي يمسك به الطفل تتشكل بالفعل من الكلمات ، النظرة التي يتلقاها من والديه وجيرانه : الإدراك مشروطا بالمجتمع الذي يعيش فيه . نتيجة لذلك ، فإن المقاربة الثقافية ليست أبدًا نهجًا فرديًا : فالواقع الاجتماعي حاضر بشكل دائم في حياة البشر ، لأنهم يتلقون أدواتهم اللغوية والفكرية من مجموعتهم . (المصدر نفسه)
موضوع جغرافية ثقافة المجتمع و حضارته قد تم تدريسه في العديد من الجامعات العالمية ([iii]) ، وهذا المقال انما هو دعوة صريحة للتعريف بهذا التخصص الجغرافي – الاجتماعي – الحضاري – السياسي – التاريخي ، لتدريسه على مستوى الدراسات العليا . ومقترحي على اقسام الجغرافيا في المدن و المحافظات الغنية بالتراث و التاريخ (وما اكثرها في بلدنا) ان تحذوا تجربة قسم الجغرافيا في جامعة كركوك ، وذلك بتنظيم مؤتمرات بنشاطات اجتماعية – ثقافية – علمية للتعريف بشخصية المكان الحضارية . و اوجه الدعوة بالخصوص لقسم الجغرافيا في جامعة الموصل ، و جامعة البصره ، وجامعة ذي قار و غيرها من الجامعات العراقية الاخرى ، ممن تجد ان وضعها العلمي و الاجتماعي يؤهلها للقيام بمثل هذا النشاط ، الذي يبرز قيمة المكان (المدينة و المحافظة) ثقافيا وحضاريا ، والله من وراء القصد .
[i] (https://www.muthar-alomar.com/?p=2121
[ii] (https://www.muthar-alomar.com/?p=2153
[iii] (https://www.muthar-alomar.com/?p=1949