الرئيسية / مفالات للحوار الفكري / الجغرافي وصناعة القرار السياسي

الجغرافي وصناعة القرار السياسي

الجغرافي و صناعة القرار السياسي

أ.د. مضر خليل عمر

في مقال سابق عرضت باقتضاب العلاقة بين علم الجغرافيا و السياسة ، مستخلصا نتيجة مفادها ان الارضية \ الفرشة الجغرافية هي التي تبنى على اساسها وترسم السياسات المكانية على مستوى الدولة (وطنيا) و محليا ([i]). وتبقى تساؤلات مشروعة في ذهن الجغرافيين الطموحين : ما هو دور الجغرافي كباحث علمي في عملية صناعة القرارات و اتخاذها كسياسة رسمية للدولة ؟ وفي اية مرحلة من مراحل صناعة القرارات يكون للجغرافي نصيب في المشاركة ؟ وهل في بلدان العالم الثالث فرصا متاحة لمشاركة الباحثين (جغرافيين و غيرهم) في عملية صناعة القرارات ورسم السياسات الوطنية (المحلية والعالمية) ؟ ما الفرق بين صناعة القرار و اتخاذ القرار ؟ و هل الجغرافي كباحث علمي مخول لان يتخذ قرارات سياسية بصفته هذه ؟

من اجل التبسيط و الوضوح افترض ان موضوع القرارات وما يتعلق بها امرا لم يرد ذكره ضمن مناهج دراسة الجغرافيا جامعيا ، لذا فانه بعيد نسبيا عن ذهن الباحث الجغرافي الذي ينحى المنهج التطبيقي ويعتمده Applied Approach . القرار هو عملية عقلية يقوم بها المرء لاختيار طريقة القيام بفعل معين أو قول معين من بين عدّة خيارات ممكنة مع الأخذ بالحسبان في أغلب الأحيان الأهداف المنشودة أو الطرق السليمة أو الاراء المناسبة لشخصية متخذ القرار التي تحدد ماذا يهدف من اتخاذ القرار .([ii]) فالقرار هو خلاصة ، هو نتيجة تفاعل مجموعة من الاعتبارات و المعطيات الذاتية والموضوعية ، فهو ليس امرا هينا ، خاصة عندما يتعلق الامر بالبلد و مواطنيه . بعبارة ادق ، فان اتخاذ القرارهو الخلاصة التي يتوصل إليها صانع القرار بعد جمع المعلومات ، وتحليلها ، وإيجاد البدائل والحلول . حيث أن عملية اتخاذ القرار تتجسد في اختيار الحل الأمثل بين مجموعة من القرارات المحتملة (البدائل) والعمل على التنفيذ،  انها نتاج عملية صنع القرار ([iii]) تتطلب عملية اتخاذ القرارات تصورًا شاملاً ، واستيعابًا دقيقًا ، ووعيًا عميقًا ، وحكمة بالغة ، مع نظرة موضوعية منطقية ، وخبرة عملية ناضجة ، يمكن من خلالها تقييم البدائل واختيار الأفضل منها ، استنادًا إلى معايير معينة يسترشد بها في عملية اتخاذ القرار . ([iv])

اما صنع القرار ، فهو عملية تمر بمراحل معينة ، قائمة على معلومات متواجدة فعلية ، وتنبؤ باشياء مستقبلية ، وجمعها وترتيبها وتنظيمها ،  وهذا قد يتم من قبل شخص واحد او من قبل مجموعه اشخاص . ولكن اتخاذ القرار قد يكون من قبل شخص واحد ، قد يكون المشرف المباشر او المدير المباشر او الرئيس العام ويكون على ضوء ماقدمه الفريق المكلف بصنع القرار . فعملية صنع القرار تمر بمراحل ، هي : تحديد وتعريف المشكلة أو الموقف ، جمع البيانات والمعلومات ، تحليل هذه البيانات والمعلومات ، طرح الحلول والبدائل المتاحة لعلاج وحل المشكلة أو الموقف ، تقييم كل بديل ومعرفة عواقبه .  (مصدر سابق) .

هنا يكون للجغرافي مكانا في عملية جمع المعلومات والبيانات و تنظيمها و عرضها بصريا (خرائط ورسوم بيانية و جداول ) و تحليلها احصائيا و استشفاف المستقبل القريب للظاهرة او المشكلة قيد الدرس . والجغرافي الحصيف لا يكتفي بالوصف وحده ، اذ عليه تفسير الاسباب الكامنة واستعراض العوامل المؤثرة ، وتاشير احتمالات التغيرات المتوقعة مستقبلا ، و طرح المقترحات المناسبة للعلاج (ألاني)  و لتجنب التكرار والتوطن (مستقبلا) . وهنا يجب و يجب بالضرورة ان لا تكون المقترحات المقدمة عامة (ضبابية) ، بل اجرائية واقعية واضحة . أما في المؤسسات وفرق العمل ، فتقوم خطوات صنع القرار أحيانا على جهود جماعية مشتركة ولا يقوم بها شخص واحد ؛ حيث يكون هناك فريق مسؤول عن جمع البيانات ، وفريق آخر مسؤول عن تحليلها ، وثالث يتولى مهمة طرح الحلول والبدائل وهكذا .

وقد تكون مشاركة الجغرافي في كتابة الابحاث التي تصب في عملية صنع القرار كمبادرة شخصية ، او من خلال انتمائه الى مركز (او وحدة) بحثي . لا فرق ولكن المراكز البحثية تشكل الان مرافقا حيوية في الجامعات و مؤسسات الدولة المختلفة .  والمراكز البحثية المهمة  هي التي تنبه صناع القرار في الدول ل كيفية صناعة القرار بعيدا عن الارتجال الذي يفضي للوقوع في الاخطاء . ان المعلومات التي توفرها هذه المعاهد والمراكز البحثية تمر عبر فلاتر حساسة مكلفة بصناعة القرار السياسي والاستراتيجي ، والتي يطلق عليها اجمالا في الولايات المتحدة المؤسسات وهي : مؤسسة الرئاسة ، والدفاع والخارجية والكونغرس، والشؤون الداخلية ممثلة بوزارات الداخلية والاقتصاد والصحة ، ويأتي الخط الثاني الداعم لهذه المؤسسات الرئيسة وهم : جهاز المخابرات ، ومجلس الامن القومي ، والسلك الدبلوماسي ، والقواعد العسكرية المنتشرة بجميع انحاء العالم ، ثم الاعلام . وبذلك يتم عرض دراسات المراكز البحثية كمورد من موارد مؤسسات صناعة القرار في الولايات المتحدة الامريكية ، فالكثير من البحوث التي تعتمدها مراكز البحوث تصبح استشارية عندما تتعارض مع الموارد الاخرى . اما تلك التي تتطابق مع الموارد الاخرى فأنها تحال للتطبيق . ([v])

تقوم مراكز الدراسات بسد الفجوة بين النطاق الأكاديمي من جهة ، وبين مؤسسات الحكومة من جهة أخرى . ففي الجامعات يتم القيام بالأبحاث بخلفية نظرية ومنهجية بعيدًا عن المشكلات السياسية اليومية . أما في داخل الأجهزة الحكومية ، يغرق الموظفون في المتطلبات اليومية لصناعة السياسات ، بما يصعّب عليهم العودة خطوة إلى الوراء للأخذ بالحسبان المشهد الواسع للسياسة . فتقوم المراكز بدور سد الفجوة بين الفكر والتطبيق .أنّ الأفكار المطروحة من قبل مراكز الدراسات تقوم بدور بناء مفاهيم جديدة للمصالح القومية ، التأثير في ترتيب الأولويات ، توفير خرائط الطريق اللازمة لتنفيذ السياسات ، وبناء تصميم جديد للمؤسسات المتهاوية  (المصدر نفسه) .

أن عملية صنع القرار السياسي تسبق عملية اتخاذ القرار، إذ إن عملية صنع القرار يتم الاعداد إليها من قبل مؤسسات عدة ، منها رسمية وأخرى غير رسمية ، وإن احد هذه المؤسسات غير الرسمية هي (المراكز البحثية) ، والتي تؤدي دورا  فعالا في تحقيق الامن القومي من خلال المشورة اللازمة لمتخذ القرار ، كما إنها تؤدي دورا مؤثرا في نقل البلدان التي ترعاها بشكل منهجي من مرحلة تطور إلى أخرى ، وبقفزات نوعية كبرى على مختلف الصعد ، وذلك لما تمتاز به هذه المراكز من فاعلية واثر في تقدم الشعوب ورقيها ، وعليه يخطئ من يظن ان تكون نهضة الدول وتقدمها في كافة نواحيها السياسية والامنية والاقتصادية والاجتماعية دون رعاية ودعم صاحب القرار لهذه المراكز. ([vi])

والاجابة عن التساؤلات التي استهل بها هذا المقال : عن دور الجغرافي كباحث علمي في عملية صناعة القرارات و اتخاذها كسياسة رسمية للدولة . للجغرافي دور كبير لانه الاعرف بالمكان و فرشته الجغرافية ، وهو مؤهل للمشاركة في فرق العمل البحثية المتعددة التخصصات . فهو مؤهل (او يفترض ان يكون هكذا) للعمل ودراسة مشاريع التنمية المكانية و التخطيط الحضري والاقليمي ، و دراسة المشكلات البيئية ذات البعد المكاني ، والمشكلات الاجتماعية (فقر ، جريمة ، اسكان ، …. الخ) .

والسؤال عن المرحلة التي للجغرافي نصيب فيها للمشاركة في عملية صناعة القرارات  ، له فرصة في معظم ان لم يكن جميع المراحل ، بما فيها مرحلة اختيار البديل الانسب .  وهل في بلدان العالم الثالث فرصا متاحة لمشاركة الباحثين (جغرافيين و غيرهم) في عملية صناعة القرارات ورسم السياسات الوطنية (المحلية والعالمية) ؟ الجواب مشكوك فيه ، فالظروف المحيطة بالباحث و بمتخذي القرارات متباينة بدرجة كبيرة ، تختلف زمنيا ومكانيا . وقد تم توضيح الفرق بين صناعة القرار و اتخاذ القرار سابقا فلا حاجة للتكرار .  و هل الجغرافي كباحث علمي مخول لان يتخذ قرارات سياسية بصفته هذه ؟ اكيد لا ، ما لم يكن في موقع المسئولية المباشرة .

رب سائل يسأل عن سبل زج الجغرافيين في صناعة القرارات في بلدنا . الموضوع ليس سهلا ، فالامر يتعلق بالجغرافي نفسه ومدى تاهيله علميا و فكريا وشخصيا للمساهمة الفاعلة في فرق عمل علمية متعددة التخصصات . وايضا بمدى تقبل الجهات المعنية وثقتها بما يقدمه الجغرافي من طروحات ومقترحات . لتجاوز هذه العقبات ولتحقيق تقدم علمي ، اقترح الاتي :-

  • قيام الجمعية الجغرافية بتشكيل مجاميع (كروبات) بحثية متخصصة بجانب جغرافي معين ، يكون واجب اعضائها القيام بدراسات تشترك بها التخصصات العلمية ذات العلاقة . وتحدد هذه المجاميع وتعلن عن : اهدافا استراتيجية لعملها ، ومنهجا بحثيا منظما تتابعه دوريا ، وعقد مؤتمراتها التقويمية بشكل دوري .
  • استحداث وحدات بحثية تخصصية و \ او متعددة التخصصات ، كوحدة الابحاث المكانية ، وحدة دراسات التنمية ، وحدة دراسات الاحتباس الحراري ، وحدة ابحاث البيئة ، وحدة ابحاث الموارد المائية ، وحدة ابحاث الجريمة ، و العديد غيرها .
  • والافضل ان يخطط لتحويل الوحدات البحثية المشار اليها انفا الى مراكز بحثية بعد ان تثبت وجودها العلمي ودورها في خدمة المجتمع ومؤسساته .
  • لا يحدث التقدم والتطور فجأة ، وليس بعصا سحرية ، انه يتطلب مثابرة مثيثة وصبرا و عزيمة لا تلين ، يعززها ويكملها قرار سياسي ، والله ولي التوفيق .

 

 

 

[i] (https://www.muthar-alomar.com/?p=2634

[ii]( http://193.194.80.101:8080/bitstream/123456789/9504/1/Yahiaoui%20Khadidja.pdf

[iii] (https://subol.sa/Dashboard/Articles/ArticleDetails/89

[iv] (https://midad.com/article/210292/%D8%B5%D9%86%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%B1-%D9%81%D9%86-%D9%88%D8%B9%D9%84%D9%85-%D9%81%D9%8A-%D8%A2%D9%86-%D9%88%D8%A7%D8%AD%D8%AF

[v] (https://democraticac.de/?p=67988

 

[vi] (https://www.iasj.net/iasj/download/171392c19dc2b80e

 

عن الدكتور مضر خليل عمر الكيلاني

متقاعد حاليا ، ارحب بكل من يحتاج مساعدة للتعلم واكتساب خبرة في البحث العلمي ، والجغرافيا بشكل خاص ، وكلي استعداد لتقديم يد العون ، لوجه الله .

شاهد أيضاً

تعزيز ثقافة البحث العلمي

تعزيز ثقافة البحث والمنح الدراسية في مؤسسة التعليم العالي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *