الجغرافيا و السياسة
استوقفني طرح دون ويتشيل ، جامعة سيراكوس ، وجزمه في المؤتمرالمئوي لجمعية الجغرافيين الامريكان AAG المنعقد عام 2004 ، الذي حددت فيه هوية الجغرافيا في القرن الحادي والعشرين ، وشدني بقوة قوله ان (( الجغرافيا علم سياسي اردنا ذلك ام لا ، فكل ما نتوصل اليه من حقائق ومعرفة فانها ستؤدي الى جدل سياسي . وفي الوقت الذي سوف لن نتفق به حول السياسات وما يجب ان تكون عليه ، فاننا بحاجة الى الاعتراف بان ابحاثنا مستحيلة بدون السياسيين ، واننا كافراد ذوي معرفة عالية ، علينا استخدام معرفتنا لتغيير العالم . فالصراع من اجل الافكار يتداخل مع الصراع من اجل المصادر و السلطة .)) ([i])
بمراجعتي البسيطة لتاريخ الفكر الجغرافي وجدت ان كلامه صحيح بدرجة كبيرة خصوصا عندما يكون المقصود بالسياسة Politics . فالجغرافيا قد خدمت الاستعمار خدمة كبيرة جدا ، وكانت الدليل المعتمد لاستغلال الشعوب واستعمارها ونهب خيراتها . ومعظم ان لم يكن جميع ما كتب عن جغرافية العالم الاقليمية كان هدفه سياسي بالدرجة الاساس . والجدير بالذكر ان ما نعرفه عن العالم الاخر هو ما رأته العين الغربية ، حيث معظم الكتابات الاقليمية هي ترجمة لكتب و مقالات اجنبية . فنحن نعرف فقط ما يريدون منا ان نعرفه عن انفسنا وعن غيرنا .
جغرافيا ، لكل مكان موضع Site وموقع Situation ، و موضع الشيء هو المساحة التي يحتلها وما يحتوية هذا الموضع من موارد طبيعية وبشرية . وموقعه (المساحة الاكبر) راجع الى ما يحيط به من اماكن ومظاهر ارضية و محتويات ودول ، وطبيعة صلتها بالموضع نفسه . ولنقف هنا قليلا ونتأمل مع انفسنا موضع العراق وما يحويه من موارد بشرية ومصادر طبيعية ، وتاريخ حضاري وارث انساني ثر .
ولا ننسى ان التاريخ والجغرافيا لصيقين ببعض لا يمكن فصلهما عن بعضهما البعض . فالتاريخ احداث حصلت في المكان وبسببه . لهذا ، يبقى العراق اسير جغرافيته اولا وتاريخه ثانيا . من هنا علينا ان نستوعب ما جرى وما يجري وما سيحدث على ارض العراق في المستقبل القريب والبعيد . فالصراع على ارض العراق عريق جدا يسبق حضارة بابل و يتجاوز اطماع الفرس والاتراك ، وستسكمل الصراعات والاطماع و المخططات بمختلف الحجج و الذرائع للسيطرة عليه من قبل دهاقنة السياسة المحلية والاقليمية والعالمية .
فالسياسة Politics لا وجود لها بدون جغرافية (الارض) ، وما يحدث جغرافيا (في المكان) من تغيرات ادارية و سكانية ، و ، و … سببه السياسه اللعينة والاطماع والمخططات المرسومة مسبقا والمنفذة لاستراتيج بعيد المدى . ماذا يمكن ان نلغي او نتجاوز؟ جغرافية العراق ؟ ام تاريخه ؟ ام واقعه المزري ؟ كيف يمكن ان نتعامل مع الطبخات السرية والعلنية المعنية بمستقبله السياسي ؟ الاقتصادي ؟ الحضاري ؟ البشري ؟ هل شبابنا مدركين للخطر المحيط بهم ؟ هل من مدرك للاساليب الخبيثة التي تعتمد وتنفذ باصرار حثيث لطمس هوية العراق ؟ واذلال شعبه المسكين ؟
ولما كانت كلمة سياسة ذات بعدين : خارجي ، كما اتضح انفا ، و داخلي Policy لذا علينا كجغرافيين ان يكون لنا دورا بارزا في هذا الجانب على الاقل (طالما لا حول ولا قوة لنا امام جبروت البعض) . الجغرافيا علم تطبيقي بطبيعته ، و متميز بدراسته للعوامل البشرية والطبيعية وتفاعلها وتكاملها في المكان . فدور الجغرافي المهني هو استثمار معرفته بجغرافية المكان وخبرته البحثية في دراسة الظواهر والمشاكل المكانية التي تؤثر على حياة المواطنين وتتاثر بسلوكياتهم . استثمارهذه المعرفة والخبرة البحثية لتاشير اماكن الخلل و الوهن و امكانات الافادة وسبلها ، وما هي احتمالات المستقبل القريب .
ومن نافلة القول بان معظم ان لم يكن جميع الظواهر ، الطبيعية والبشرية ، لها ابعادها المكانية (والزمنية) من حيث التركز و التباين ، والزمان لا ينفصل عن المكان ، لانهما وجهي عملة واحدة تشكل قيمة المكان وخصوصيته المميزة . وبهذه المعرفة يتسنى للجغرافي المشاركة في دراسة اسباب الظواهر والمشاكل المكانية وعلاقاتها مع المكان نفسه زمنيا ، و مع ما يحيط به مكانيا . وهذا ما جعل من الجغرافيا علما حدوديا ، علم على تماس مع العلوم الاخرى ، لانها جميعا تدرس ظواهرا لها بصماتها المكانية . ([ii])
بعبارة ادق ، واكثر صراحة والما (للمختصين على الاقل) ، لا سياسة (خارجية او داخلية) بدون معرفة جغرافية المكان المعني . فالتخطيط ، على سبيل المثال لا الحصر ، يتطلب مسحا ميدانيا مسبقا لرسم المخطط وتهيئة سبل تنفيذه . وقد وعى الغرب ذلك منذ خمسينيات القرن الماضي فظهرت كتابات و مؤلفات تعنى بالجغرافيا التطبيقية ، الجغرافيا والتخطيط ، الجغرافيا دعامة التخطيط ، و غيرها من العنوانات التي ترجم العديد منها الى اللغة العربية .
وشاع اتجاه في البحوث الاكاديمية لدراسة المشاكل Problem Oriented Researches سواء اكانت طبيعية ام بشرية ، ومدى تاثرها بطبيعة المكان (الطبيعية والبشرية (وحتى السياسية)) . وكان للتحول في جمع البيانات والمعلومات لتصبح على اساس مكاني Spatial Data Base دور كبير في تنامي السياسات المكانية Spatial Policies ، و تشكيل فرق بحثية متعددة التخصات لدراسة مشاكل وظواهر تتجاوز قدرة تخصص علمي واحد لتفسيرها ورسم سياسة معالجتها . فالسياسة المحلية (السياقات) ميدان الجغرافي الحصيف الذي يعرف كيف يستثمر معرفته الجغرافية و تمكنه من التقنيات البحثية المعاصرة ، والمؤهل للجلوس مع المختصين في العلوم الاخرى ليرسم سياسة التنمية المكانية و معالجة حالات الاختناقات ورسم سبل الحفاظ على البيئة واستدامتها .
فالجغرافي سياسي (رغما عنه) خلف الكواليس ، دوره الوطني يفوق ويتجاوز المنتخبين رسميا ، واولئك الذين يجلسون في مواقع متحكمة في السلطة . لذا يتجنبه من ليس مؤهلا للمنصب ، و من يخاف من الحس الوطني . وهنا ، اما ان يكون الجغرافي مطبلا للمسئولين ليعيش بسلام وينعم بما يعطوه من فتاة السحت الحرام ، او مشخصا للامراض والعلل بعلمية وموضوعية ، حينها يكون في نظر البعض معاديا و معارضا سياسيا . والله ولي التوفيق .
[i] (- Mitchell, Don, Geography in an Age of Extremes: A Blueprint for a Geography of Justice . Annals of the Association of American Geographers, 94(4), 2004, pp. 764–770 المقال مترجم و منشور في :
https://www.muthar-alomar.com/?attachment_id=2456
[ii] (https://www.muthar-alomar.com/?attachment_id=2308