التعليم (العالي) : الى اين ؟
عندما كنت اراسل الجامعات الاجنبية بقصد اكمال دراستي العليا ، كنت اواجه مشكلة في الكتابة عن مشروع البحث الذي انوي التخصص به ، ولكنها لم تكن مشكلة كبيرة جدا ، فالاختصاص العام (طبيعي او بشري) قد توضح مسبقا ، وحتى ضمن هذين التخصصين الواسعين كان احدنا قد حدد التخصص الادق : جغرافية المدن ضمن تخصص الجغرافيا البشرية على سبيل المثال لا الحصر . وقد ساعدني المرحوم الدكتور عبد الرزاق عباس في اختيار الموضوع التفصيلي الدقيق الذي ساكتب عنه . ومن خلال دراستي في المملكة المتحدة اكتشفت ان الطالب هناك يختار التخصص ، (قبل قبوله في الجامعه) ، عن رغبة و قناعة ومعرفة مسبقة بشيء من التفصيل عنه ، والاهم انه يختاره ليحدد مهنته التي سيعيش من خلالها . النظام الدراسي هناك يؤهل الطالب لهذا ، ويساعده في اختيار المواد الدراسية التي تمكنه للسعي في مسعاه وتحقيق رغباته العلمية والحياتية .
وكانت حيرتي كبيرة ، عندما اقابل المتقدمين للقبول في الدراسات العليا واجدهم لم يحددوا بعد الاختصاص الذي يرغبون التعمق فيه . والادهى ان معظمهم لم يقرأ موضوعات جغرافية بعد نيله الشهادة الجامعية الاولية . وعند توجيه السؤال للمقبولين في الدراسة لنيل شهادة الدكتوراه ، عن السبب الحقيقي لذلك ، كان الوجوم و الحيرة تعلو جميع الوجوه . ولم اجد احدا منهم له نظرة مستقبلية لما سيقوم به بعد نيل شهادة الدكتوراه . فالدكتوراه عند الاغلبية هدف وليست وسيلة . كنت اتعمد ان اوجه سؤال لطلبة الدراسات العليا في الامتحان النهائي مفاده : قيم نقديا ثلاث مصادر علمية في تخصصك . يترك هذا السؤال دون الاجابة من الجميع .
والامر اعمق وادق لمن يروم الدراسة العليا خارج العراق ، في الجامعات الرصينة على وجه التحديد . فالخلفية العلمية هشة ، و منظور مستقبلي مشوش ، ومعرفة بالتوجهات الحديثة في الاختصاص شبه مفقودة ، تكملها ارضية اللغة الاجنبية غير المستوية . وهذا ليس امرا جديدا ، ولكنه تعمق واصبح عقبة كأداء امام جميع من له طموح علمي . لقد كان هناك كتاب منهجي يدرس في الجامعات ، الذي تحول مع الزمن الى ملزمة ، وهذه اضحت بقدرة قادر مختصرات و تعاريف مطلوبة في الاختبارات ، التي عرفت اسئلتها ونشرت بمختلف الوسائط والادوات علنا . واصبح حضور المحاضرات مناسبة للقاء مع الاصدقاء والخلان . كل شيء تغير ، نحو الاسوأ طبعا . لذا ، لم أستغرب عندما تساءلت خريجة قسم الجغرافيا عن الفرق بين الجغرافيا الطبيعية و الجغرافيا البشرية وطرائق التدريس . ما اثارني فعلا واستفزني انها بعد هذا التساؤل تريد من يقودها لاختيار التخصص واكمال الدراسات العليا ؟
ارى انها ستقبل في الدراسات العليا وتنال الشهادة الجامعية ، ثم تترقى بالسلم الاكاديمي ، وتجلس خلف منصة مناقشة الطلبة المرشحين لنيل شهادة جامعية عليا . انها نموذج من خريجي هذا الزمان ، زمان شاعت فيه الشهادات المزورة ، والالقاب اللاعلمية ، وانتشرت فيه مكاتب كتابة الرسائل والاطاريح والابحاث لكل من يرغب و يسدد المبلغ المطلوب ، سواء اكان قد اكمل الدراسة الابتدائية ام لا . المهم ، ان هناك شيء ما منشورا في مجلة (معترف بها) ، وهناك من يروج لصعود مثل هؤلاء الامعات و الجهلة في سلم الخدمة الجامعية . فالامية لم تعد حكرا على فئة معينة حصريا . لعل هذا اكثر من ناقوس خطر ،
انه مسمار كبير يدق في نعش التعليم العالي في بلد كانت له حضارة .