المدينة الفاضلة
يعد تحقيق مدينة فاضلة والعيش فيها بسلام وامان من اقدم احلام الانسان على وجه البسيطة ، وقد تبارى الفلاسفة والمصلحون الاجتماعيون في تاشير ملامح هذه المدينة ورسم سمات الفضيلة فيها ، كل من وجهة نظره و سعة افقه وظروف الحياة في زمنه وعصره . ولا ننسى دور السلطات الحاكمة العادل منها في سن قوانين وتشريعات تحقق جوانب من العدالة (حمورابي على سبيل المثال) التي هي ارضية المدينة الفاضلة ومنبت لكل السمات و الخصائص الانسانية . فبدون عدالة ليس هناك فضيلة .
ومنذ فجر التاريخ الى يومنا هذا ، يزداد الانسان في غيه و طغيانه و تحكمه ليس في اخيه الانسان فحسب ، بل وفي الطبيعة ايضا ، متناسيا ان الطبيعة كائن حي له احاسيسه وله قوانينه وله صوته الذي يزلزل الارض ومن عليها ، فثورة الانسان قد تكون محدودة الاثر مكانيا ولكن ثورة الطبيعة تشمل القاصي والداني . ناسيا ، ومتجاهلا ان الكرة الارضية تشكل نظاما بيئيا متكامل العناصر (الطبيعية والبشرية) ، المتفاعلة مع بعضها البعض . وانه حيثما تكون العمليات البشرية قد تجاوزت المسموح لها به حينها يكون للطبيعة صوت و ممارسة كرد فعل واشعار بضرورة واهمية وجود توازن لا يمكن تجاوزه . و عندما تمارس الطبيعة دورها في الحفاظ على التوازن البيئي يقع العبئ الاكبر (النتيجة) على الانسان في جميع ارجاء الكرة الارضية . فالعلاقة سببية حلقية (البشر – الطبيعة – البشر) لكل ما يحدث من حال اللاتوازن البيئي على سطح الكرة الارضية .
وفي المدن يعيش معظم سكان الكرة الارضية ، والكل يبحث عن حياة هانئة وبيئة نظيفة ، فلا يجدوها ، لا في الدول المتقدمة اقتصاديا ولا في الدول المتخلفة اقتصاديا واجتماعيا و حضاريا . ويوعز البعض ذلك الى دور الراسمالية العالمية ، و الى سيادة الدولة العميقة (على مستوى الدولة وعلى مستوى العولمة) وتحكمها في حياة الناس ومصيرهم ، والى قصور في ادارة الموارد (الطبيعية والبشرية) . وبقصد السيطرة (الجزئية) على الاوضاع المحلية تبارى المخططون في طرح اراء و مفاهيم و ضوابط للمدينة التي يمكن ان تكون على طريق المدينة الفاضلة . وقد ركز البعض على مفهوم التنمية اولا ، ومن ثم جاء مفهوم الاستدامة . سعى البعض الى تحقيق (نظريا) التنمية الاجتماعية ، وفكر في سبل استدامتها . وهدف البعض الاخر الى تنمية البيئة الطبيعية و التنوع الحيوي والحفاظ عليها من الاستنزاف و سوء تصرفات الانسان الذي لا يفكر الا بنفسه وبمصلحته الشخصية الانية .
اين المدينة الفاضلة من هذا كله ؟ ففي التخطيط ظهر مفهوم التخطيط الشامل ، و مفهوم التخطيط الاستراتيجي ، ومفهوم الرؤية المستقبلية الشاملة ، ومفهوم استراتيجة التنمية البيئية البعيدة المدى ، وغيرها الكثير من المفاهيم التي بقي تداول معظمها (ان لم يكن جميعها) اسير دائرة ضيقة من المفكرين و المخططين وليس السياسيين وصانعي القرارات المتحكمة . لذا ، بقيت مدينة افلاطون كما هي ، حبر على ورق . بعبارة ادق ، طالما ما زال الانسان اسير مصالحه الشخصية – الانية ، تتحكم به قوى خارجية و داخلية (محلية)، وطالما لا ينظر بصدق الى التكامل البيئي (البشري – الطبيعي) واعتماده هدفا جوهريا ، سياسيا – اقتصاديا – اجتماعيا ، تبقى مدننا في خرابها و تخلفها ، وبؤسها ، في الطرف الاخر الابعد عن المدينة الفاضلة .
هل الحل بيد السياسيين ؟ ام بيد المخططين ؟ ام بيد الاداريين ؟ ام ، علينا ان نبقى نحلم بالمدينة الفاضلة ، حيث الخدمات المتكاملة ؟ فلا مدينة فاضلة بدون نقل عام مستدام ، و لا مدينة فاضلة بدون بنى تحتية ومنافع عامة مستدامة ، ولا مدينة فاضلة بدون خدمات مجتمعية مستدامة ، ولا مدينة فاضلة بدون اقليم وظيفي (الريف – على الاقل) مستدام ، ولا مدينة فاضلة بدون امن غذائي ، وبدون امن مائي ، وبدون امن اجتماعي . وعندما تغيب صفة الكفاية (العددية) والكفاءة (النوعية) عن الموجود من الخدمات والمنافع العامة و تغيب العدالة الاجتماعية ، وتسود اذرع الدولة العميقة (عالميا ومحليا) و تتحكم بدون خوف او خجل او رادع ، حينها نتوقع غضب الطبيعة (كاحد جنود الخالق) علينا جميعا . فالساكت عن الحق شيطان اخرس ، ومشارك بطمسه وان لم يقصد ذلك .
اما آن الاوان لنصحى ؟ ام نبقى (مكبسلين) و كاتلين الجوع بالراحة ؟ علينا ان نعيد النظر في ما نحن عليه ، وما سيأول الامر اليه مع ابنائنا واحفادنا . والله من وراء القصد ، وهو ارحم الراحمين .