اصدار بطاقة هوية للمدينة العراقية
أ.د. مضر خليل عمر
مدخل
لجغرافية المدينة التي نعيش فيها دور كبير في تاطير نمط سلوكنا و طراز حياتنا فيها ، والصورة التي نمتلكها عن المدن الاخرى مكتسبة من زيارات ، او منقولة عن من عاش فيها او زارها ، او من خلال القراءات (كتب ومجلات ) او متناقلة اعلاميا (تلفاز او انترنيت) . وقد تطورت دراسة المدن بشكل متسارع نتيجة لنمو المدن وانتشارها وتاثيراتها المتضاعفة على حياة المجتمعات على اختلاف طبيعاتها ومواقعها على سطح الكرة الارضية . لقد بدأت دراسة المدن كنقاط موقع مستقرات بشرية على الخريطة ، (عين طائر) ، ثم شكلها الاجمالي (مورفولوجيا) ، ثم تفاصيل شبكة الطرق الداخلية ، نزولا الى استعمالات الارض فيها.
وعند هذا المستوى من النظر الى المدينة ، بدأ التنظير لنمذجة هذه الاستعمالات ، والعوامل التي شكلتها ، وطبيعة المجتمعات التي تقطن في ارجاء المدينة موزعة على المحاور و الطرق ( ما عرف حينها بالمناطق الطبيعية و الجيرات الاجتماعية ) و اثر ذلك على حركة الناس للتنقل يوميا للعمل او للتسوق و غيرها من فعاليات فصلت مكانيا عن موقع السكن و عن مكان العمل . (فصل السكن عن مكان العمل غير جغرافية المدن كليا – كذلك جغرافية العالم) . فالدراسات الاولى كانت عمرانية بدرجة كبيرة ، ومع (نزول الطائر الى مستويات دنيا) انصب الاهتمام على الناس و حركتهم ، (اتجاه اجتماعي – سلوكي – ثقافي ) ، وحتى استعمالات الارض اضحت دراستها من خلال الغطاء الارضي و البناء الوظيفي .
ومن خلال التركيز على مجتمعات المدن (المجتمع الحضري) ، اتجهت الدراسات الجغرافية خاصة و الاجتماعية والاقتصادية و السياسية عامة للتركيز على معايير تقيس حركة المجتمعات و تقدمها ، و سبل تشكيلها بيئات اجتماعية خاصة بها (جدلية المكان الاجتماعية) . بعبارة ادق ، اضحت ثقافة المجتمع و مستواه الحضاري هي هدف الدراسات لتباينها مكانيا و زمنيا . سعى الباحثون الى اكتشاف هويات المدن وسمات مجتمعاتها و انعكاسات ذلك على المظاهر الطبيعية – العمرانية فيها ونمط حياة سكانها . بصريح العبارة ، اصبحت هوية المدينة هدفا للدراسات الحضرية .
لقد غيرت تقنيات الاتصالات و المواصلات ، وانتشار مراكز التسوق على المساحة الجغرافية للمدينة و فقدان منطقة الاعمال المركزية اهميتها الى تغيير كبير في العلاقات الاجتماعية – الاقتصادية – المكانية لسكان المدينة . رافق ذلك انفتاح ثقافي على العالم ، مما دفع المخططين و ادارات المدن للتفكير و العمل على ابراز شخصية المدن و تمييزها عن بعضها البعض بطرق مختلفة . فعملية التنمية و التطوير واعادة تطوير المناطق المتهرئة وتخصيص اماكن للنشاطات الثقافية والفنية ضمن مراكز المدن انما هدفها رسم ملامح شخصية المدينة ، واعادتها للحياة اليومية المعهودة سابقا .
ولما كانت المدينة كائن عضوي حي ، يتاثر بكل ما يؤثر على الكائنات الحية الاخرى ، و لها دورة حياة ، ولها سماتها و ثقافتها المتطورة والمتغيرة مع كل ما يطرأ على المدينة ويؤثر عليها ، من الداخل (سكانها وادارتا) ومن خارجها (المؤثرات السياسية – الاقتصادية) . لذا فان دراستها بين حين واخر يعد توثيقا تاريخيا – جغرافيا للمرحلة التي تمرالمدينة بها . تساعد هذه الدراسات في رسم مسار حركة \ تقدم المدينة و تاشير فترات الركود والنكوص (عمرانيا ، اقتصاديا ، سكانيا ، بيئيا) ضمن مسيرتها . وبما ان المدينة مركز اشعاع لاقليمها المتاخم لها ، فان دراستها تؤشر حال اقليمها بشكل غير مباشر (ومباشر احيانا) .
وجهة نظر
مع سيادة العولمة و تحكمها في حياة الشعوب جميعا وبدون استثناء ، تغيرت خرائط المدن و طرز الحياة فيها بشكل جذري . ولم تعد نظريات التركيب الداخلي للمدينة صالحة للمقارنة والقياس ، ولا نظرية الاماكن المركزية ، ولا نظرية فون ثونن ، و لا نظريات الهجرة و حركة السكان داخليا و \ او خارجيا . فالامور انقلبت راسا على عقب بشكل جذري . وقد تسائلت سابقا عن هوية المدينة العراقية في الوقت الراهن كونها على المحك ((https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=871882)) . وارى ان الوقت قد حان لنعيد دراسة تركيبة مدننا في ضوء المستجدات الواقعية و الفكرية الراهنة . فبغداد لم تعد كما كتب عنها خالص الاشعب ولا البصره كما كتب عنها عادل خطاب ، و الامر ينطبق على الدراسات الحضرية الاخرى جميعا وبدون استثناء .
الان ، لدينا جمع غفير من الساعين للحصول على شهادات جامعية عليا (التقديم للدراسات العليا اضعاف المقبولين في الدراسة الاولية) ، ولكل جامعة اقليمها الوظيفي ، الذي يضم عددا غير قليل من المدن واقاليمها المتاخمة لها . ومعظم المتقدمين للدراسة العليا ، ان لم يكن جميعهم ، لم يحدد بعد اي اختصاص يريد ، ولم يفكر بعد في موضوع تخصصه الدقيق ، الذي يرسم له ملامح شخصيته الفكرية – العلمية – المهنية . انها فرصة لتوجيههم لدراسة المستقرات البشرية بشكل منهجي يخدم التخطيط العمراني – الاجتماعي – البيئي وبما يساعد في رسم سياسات التنمية المستدامة .
التنمية المستدامة مفهوم واسع ، له تخريجاته الكثيرة طبقا لتخصص المعني واهتماماته ، فماذا يقصد بالتنمية الحضرية المستدامة ، مثلا ؟ تشمل عناصر المدينة و مكوناتها الاتي : العمران ، شبكة النقل الداخلية ، النشاطات الاقتصادية ، تركيبة السكان الديموغرافية ، تركيبة السكان الاجتماعية ، الخدمات المجتمعية والمنافع العامة ، البنى التحتية ، البيئة الطبيعية ، البيئة الاجتماعية ، الحوكمة وسياساتها التنفيذية . وكما قيل جغرافيا سابقا ((اي شيء مرتبط بكل شيء)) ، فالموضوع معقد ومتشابك و متداخل التاثير و التاثر .
التنمية الحضرية مرتبطة بمستوى تقدم المجتمع ((لقياس تقدم المجتمع وعلاقته بالتنمية الحضرية ينظر https://www.muthar-alomar.com/?p=1561)) ، وتنطلق منه لرسم ملامح الرؤية المنشودة و صياغة الاهداف الاستراتيجية والمرحلية لتحقيق التنمية واستدامتها . لذا على من يدرس التنمية الحضرية ان يركز على النقاط الواهنة في البيئة الحضرية – عمرانية \ اجتماعية \ خدمية \ بيئية ، ويسلط الضوء عليها و على اسبابها و العوامل المؤثرة عليها ليقترح سبل المعالجة الوقائية و العلاجية . فمن المستحيل ان يغطي باحث واحد بشمولية جوانب التنمية الحضرية لاي مدينة كانت ، انها تتطلب فريق عمل متكامل \ منوع التخصصات يسعى للوصول الى هدف مشترك
المقترح
قيام الاقسام العلمية في الجامعات العراقية بتوجية ملاكاتها البحثية و طلبة الدراسات العليا لدراسة مشاكل المدن : العمرانية ، الاجتماعية ، البيئية ، البنى التحتية ، الخدمات المجتمعية والمنافع العامة ، البيئية ، التربوية ، والادارية ضمن اقليمها الوظيفي . ويفضل ان يصاغ استراتيج بحثي متكامل وشامل للرقعة الجغرافية و جوانب الموضوع قيد التقصي . ويكون هذا الاستراتيج ملزما للاقسام العلمية و العمادات و رئاسة الجامعة . اي استراتيج مركزي على مستوى الجامعه . يناقش بالتفصيل في اجتماع عام في البداية ، ومن ثم تعقد اجتماعات موسعة دورية لمتابعة المستجدات ولمعالجة المشاكل والعقبات التي تعترض طريق التنفيذ . ولعل هذا النشاط (اذا اقر و تم تنفيذه فعليا) ، يفرز من هو اهل لموقعه في الجامعه ومن هو غير مؤهل لا علميا ولا مهنيا ليحمل لقب دكتور او استاذ في اختصاصه . فالعمل البحثي الحقيقي (غربال) يتساقط من خلاله من لم ينبني علميا بشكل سليم .
وللتوضيح ، اقترح على اقسام الجغرافيا في جامعة ديالى ، مثلا ، تكليف طالب دكتوراه للقيام بدراسة مقارنة بين مدينتي المقدادية و كنعان ، او بين مدينتي خانقين والخالص مثلا . المقارنة هدفها ابراز نقاط التشابه والاختلاف بين المدينتين ، التي قد لا تكون بارزة للعيان في الوهلة الاولى . وانها ستكون حافزا لتحليل اسباب هذا الاختلاف ، ونتائجه و سبل معالجته . فمثلا ، بسبب الاوضاع الامنية لا يتوقع ان يكون الهرم السكاني في المدينتين متشابه ، وان مجالات الاختلاف قد تبرر ما يعترض المجتمع ويعاني منه من مشكلات و معوقات تنموية . ومن خلال المقارنة يمكن التركيز على اهداف التنمية ومساراتها لكل مدينة بشكل مستقل عن المدينة الاخرى .
وبما ان المدينتين ليس اي منها نموذجي ، لذا من الجوهري ان تكون المقارنة اولا مع معيار عالمي رسمي . بعبارة ادق ، مقارنة مضاعفة : الاثنين مقابل المعيار التخطيطي ، و الاثنين تجاه بعضهما البعض . بهذه الصيغة تتحدد الموضوعية وتبرز . وهنا يمكن اعتماد الجداول اضافة الى الرسوم البيانية التوضيحية . اما المقارنة الاحصائية ، فالهدف منها التحقق من ان المدينتين تعودان الى مجتمع واحد ام لا . وعندما لا يكونا من المجتمع نفسه ، حينها يستوجب الامر التفسير و البحث في الظروف داخليا ((التركيب الاجتماعي للسكان)) و خارجيا ((السياسية ، الامنية)) السابقة التي ادت الى ذلك الاختلاف .
وبما ان الهدف النهائي هو رسم صورة بالكلمات والرسوم البيانية والخرائط لهوية المدينة (اصدار بطاقة موحدة لها) وملامح شخصيتها ، فلابد ان تكون الصورة ملونة ، فالفرق بين الصورة بالابيض والاسود والصورة بالالون ما تعطيه من انطباع للحياة وقت اخذ الصورة . المقصود هنا ان يكون هناك حيز للوضع الثقافي – الحضاري للمجتمع من خلال ممارساته الثقافية و الرياضية وعاداته الاجتماعية . فعندما نقرأ ما كتبه الرحالة القدامى عن المدن نحس وكاننا نعيش زمانها من خلال تلك الكتابات . فالمطلوب ان لا تكون الكتابة عن الجوانب المادية الصرفة ويتركوها لوحة صامته ، بل صورة ملونة ناطقة بثقافة المجتمع و حضارته . وهذا توثيق تاريخي جغرافي في الوقت نفسه للمرحلة التي اجريت بها الدراسة .
والله ولي التوفيق ، وهو ارحم الراحمين ، وهو من وراء القصد .