الرئيسية / التنمية وتقدم المجتمع / حياتنا بين جنة نحلم بها و واقع نعيشه

حياتنا بين جنة نحلم بها و واقع نعيشه

حياتنا بين جنة نحلم بها و واقع نعيشه

أ.د. مضر خليل عمر

لكل واحد منا تصوره للجنة التي يحلم بها ويتمناها  ، وبالتاكيد انها على اختلاف كبير ان لم يكن نقيضا للواقع الذي يعيشه ، وفي احسن الاحوال ، استكمالا للنواقص التي يعاني من غيابها في البيئة التي يعيش فيها و يعمل . كل فرد منا قدر له مكان ولادته و قوميته و دينه و مذهبه ، فهو غير مخير فيها ، و تحرره منها ليس امرا مستحيلا ، ولكنه  امر غير مالوف ، فلا احد ينكر هويته التي تحددت بمكان ولادته و حيث تمت تنشئته و تعليمه واعطته صفات بدنية و اجتماعية استارثها طبيعيا ام اكتسبها مكانيا . فخياراتنا محدودة في جميع الاحوال ، و مسارات  الخروج عليها و تحقيق الاماني متاحة ولكنها محفوفة بالمخاطر و النتائج غير المسرة .

لنحرك مخيلتنا قليلا ، عسى ان نجد ما يخفف من وطأة معاناتنا ، الصراع بين الواقع والطموح . لنفترض حصولك على فرصة للعيش في سويسرا ، في  منزل متنقل (كارفان) او خيمة على حافة غابة وبجوار بحيرة هادئة ، وكان القمر سميرك ليلا ، ومعك من تحب صحبته و تتالم لفراقه . هل هذه هي الجنة التي تحلم بها ؟ هل ينقصك شيء ؟ ما هو ؟ اليست هذه هي البيئة التي يحلم بها الكثيرون و يتمنون مشاهدتها ولو بالافلام ؟ هل ضمنت عدم تدخل الغرباء ، من سكان الغابة : الدببة و الذئاب و غيرها ؟ هل فكرت في حدوث طارئ صحي مفاجئ ، (التهاب الزائدة الدودية) مثلا والحاجة الى الانتقال باسرع وقت الى المشفى لاجراء اللازم ؟ فانت في بيئة لم تتعود عليها بعد ، ولم تاخذ ذلك بالحسبان .

وحتى اذا توفرت فرصا مماثلة للعيش في اماكن اخرى من العالم : جنوب افريقيا حيث الطبيعة الخلابة لالتقاء تيارين بحريين دافئ مع بارد ، او جنوب شرق اسيا حيث الاماكن المشهورة في السياحة و حرية التمتع بالمحرمات ، اضافة الى المناظر الطبيعية و المظاهر الثقافية – الحضارية  الاصيلة المنوعة ، وغيرها من اماكن نتصور (طبقا للمعلومات المتاحة و تصورنا عنها) انها جزء من جنة الله على الارض . الجنة (على وجه الكرة الارضية) ليست مكانا ما معينا و بمواصفات محددة يتفق عليها الجميع ، انها من وحي خيالنا وما نعتقد انه يوفر لنا الكثير مما نطمح ونريد باقل جهد و ثمن . انها نتاج خيالنا و طموحنا ، ومما نعاني  منه من نقص في البيئة التي نعيش فيها . انها نتاج مقارنة واقع معاش مع حالة مثالية نطمح اليها و نتمناها .

منغصات الحياة هي التي تدفعنا لنفكر في الجنة و نتناسى ما متاح لنا حيث نعيش ، فعلى سبيل المثال لا الحصر ، ولا اتحدث عن احد معين ، بل عن نفسي . الحمد لله لدي منزل (300 متر مربع) ، (150) منها حديقة ، والكهرباء دون انقطاع بفضل منظومة الطاقة الشمسية . افكر ، وافضل العيش في شقة (80) متر مربع في كردستان لتوفر البنى التحتية هناك ، وسيادة القانون . حيث اسكن حاليا ، الشوارع متربة و صعوبة الحركة فيها وعليها (بالسيارة و \ او على الاقدام) تجعل عملية التسوق و الخروج من المنزل متعبة نفسيا و بدنيا . فهل تمثل بيئة كردستان (الجنة) بالنسبة لي  ، لاني افتقد عناصر جوهرية في البيئة التي اعيش فيها حاليا ؟ الجنة حيث تتوفر عناصر الحياة الحرة والكريمة ، حيث تتحقق الحقوق والواجبات ، وحيث  يكون الا حترام متبادل و القانون سائد على الجميع . الجنة حيث الامن والامان ، و الصحة والسلامة و المحبة والالفة بين الجميع .

العولمة ، ومخططوها و منفذوها يعملون على تعميم معاناة اليهود التاريخية (الشتات) ، التشرد في مختلف اصقاع الكرة الارضية  والانتقام من كل من له موقف ضد (السامية المزعومة) . فعملية التهجير القسري والتطوعي دائرة على قدم وساق في مختلف ارجاء الكرة الارضية و لجميع الشعوب والاقوام و بدون استثناء .  وتتم عملية التهجير باساليب و سياسات منوعة ، وباهداف معلنة غير حقيقية . ونتائج عملية التهجير والهجرة متفاقمة  وتتصاعد مع الزمن بمعامل اسي  ، سواء بالنسبة للبلد الاصلي و البلد المقصد ، و في البلد المقصد تكون المعاناة متصلبة ومتراكمة للموطن و المهاجر على حد سواء . بعبارة ادق مشاكل انية ومستقبلية لا عد ولا حصر لها لجميع الاطراف . فالمهاجر ، قد يكون هجر جنته ليعيش في جحيم لا يرحم .

فالعولمة تقود العالم الى حافة الهاوية ، وذلك بفقدان  البلدان والشعوب للهوية والاصالة (اعادة التشكيل الديموغرافي – الاجتماعي)  ، واخلاء البلدان من اسسها الاقتصادية الرصينة ، وهوياتها الثقافية الحضارية . الهدف الاستراتيجي  لها ، دفع الدول والشعوب لت(فكر محليا وتعمل عالميا) ، اي جعل تخطيطها لبلدها وشعبها من خلال فتح القنوات العالمية للدخول والهيمنة عليه . اشغال الناس بالمظاهر والتمتع باستهلاك ما ينتج خارج بلدهم . سيادة متاهة الحياة البوهيمية ، حياة لا معنى لها ، جنتها متمثلة بالاكل و التسلية ، دون اهداف تنموية استراتيجية حقيقية . عمليات غسيل اموال ، و انتشار تجارة مخدرات و سيادة  منطق (الانا) على حساب المصالح العامة (العائلة و المجتمع والدولة) لتحقيق جنة البعض الضال  .

هذه ليست نظرة متشائمة ، ولكنها ناتجة عن احساس بما يجري في البلد من ممارسات مرفوضة بكل المعايير الرسمية والشعبية ، الدينية والدنيوية ، و اثمرتها ايضا قراءات عديدة ومنوعة عن حال مدن و شعوب اخرى يفترض انها افضل حالا مما نحن عليه الان . فالولايات المتحدة ، واوربا الغربية ، و شعوب العالم الاخرى ، جميعها تعاني من اثار العولمة ولكن بدرجات و نوعيات مختلفة ومتباينة . الخلاصة ، ان ما نعتقده من وجود جنة على سطح الكرة  الارضية محض خيال و ضرب من ضروب  الدجل والشعوذة . بالتاكيد ، ليس مقصدي  هنا جنة رب العالمين ، ولكن المقصود ما نعتقد  نحن كبشر انه جنة على سطح الكرة الارضية فقط و حصريا .

لكي نعيش الجنة على سطح الكرة الارضية علينا ان نرى ما لدينا  اولا ، وماهو متوفر حوالينا  ثانيا ، و التفكر في كيفية تنميته ليشكل لنا جنتنا الخاصة بنا ثالثا  . فجنتنا من نتاجنا نحن ، ان اردنا العيش فيها بسلام و بفكر سليم و واقعي . فامتلاكي لسكن خاص بي ، نعمة ، تحويله الى جنة امر متروك لي  انا شخصيا ، كذلك الامر مع معطيات الحياة الاخرى في البيئة المحيطة بي  . فكلما فكرنا بموضوعية و واقعية بما هو متوفر ومتاح لنا ، في بيئتنا المحلية ، سنجد ملامح جنة نحن منشغلون عنها بارادتنا . فالواقع الذي نعيشة له وجهين : جنة ونار (ايجابي و سلبي) ، ونحن من يؤجج الجانب الذي يعيش به و يجعله هاجسه و شاغله عن الامور الاخرى ، عن التمتع بالحياة .

وليست جنتنا (التي نحلم بها) بمعزل عن ما يجري في البلد و المنطقة والعالم ، ولكن المهم ان لا نغرق في دوامات السياسة الموجهة من رواد العولمة ودهاقنة سياسة التحكم في القرية العالمية . المهم ان نحافظ على بيئتنا المحلية باقل ما يمكن من تشوية و اتساخ بملوثات العصر . ان نجعل جنتنا المحلية حقيقية ، بارادتنا و بايدينا ، وبما يحقق لنا السلامة والامان من نوائب الدهر و عجائب الزمان . والله المستعان وهو ارحم الراحمين .

عن الدكتور مضر خليل عمر الكيلاني

متقاعد حاليا ، ارحب بكل من يحتاج مساعدة للتعلم واكتساب خبرة في البحث العلمي ، والجغرافيا بشكل خاص ، وكلي استعداد لتقديم يد العون ، لوجه الله .

شاهد أيضاً

السياحة الريفية و استدامة الريف

السياحة الريفية و استدامة الريف أ.د. مضر خليل عمر في البدء من الجوهري توضيح بعض ...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *