السياحة الريفية و استدامة الريف
أ.د. مضر خليل عمر
في البدء من الجوهري توضيح بعض المفاهيم التي سترد في المقال . الفرق بين السياحة و الترفيه ، هو ان السياحة Tourism تستوجب المبيت خارج مقر سكن السائح ، بينما الترفيه Recreation فيتم دون الحاجة الى المبيت في مكان اخر . فسفرتي العائلية من بعقوبة الى منتزه الزوراء في بغداد والعودة في اليوم نفسه لا تسمى سياحة ، بل ترويح و ترفيه عن النفس والعائلة . اما سفرتنا العائلية الى الحبانية او بابل (الابعد مسافة) فتعد سياحة بسبب المبيت هناك ولان السفرة قد تجاوزت اليوم الواحد . اما الاستدامة ، sustain فهي ان نترك للجيل القادم ما ينفعه دون ان نستنزف الموارد الراهنة بانانية و جشع . والريف العراقي بامس الحاجة الى تطوير و استدامة ، بمختلف معطياتها و جوانبها : الاجتماعية و الاقتصادية و البيئية .
بسبب حرمان الريف من ابسط مستلزمات الحضارة و الخدمات المجتمعية والمنافع العامة جرت هجرات منظمة و طوعية الى مراكز المدن التي اتخمت و تمددت بشراهة و وقاحة لتسلب الريف ابناءه و افضل اراضية الزراعية . وبعد ان كان هناك مصطلحين (في اللغة الانكليزية) فقط للتعبير عن المدن : Town & City تعددت المسميات كثيرا وصولا الى (رقعة حضرية – عندما تمتد المباني بتواصل تام بين اكثر من و حدة ادارية واحدة) ، و وصفت المدن العملاقة بانها غابة اسمنتية ، وذلك لسيادة قوانين الغاب فيها ، ومما ادى الى ظهور تخصص اكاديمي يعنى بادارة (حكم) الحضر urban government يدرس في بعض الجامعات العالمية . في البدء كانت حركة الناس من الريف الى مراكز المدن ، تلتها حركة من مراكز المدن الى ضواحيها للسكن فيها ، ثم تبع السكن في الضواحي استعمالات الارض الاخرى (الصناعية و التجارية و الترويحية) لتستقر في اطراف المدن Urban fringe ، بحيث تحير الدارسون في تاشير حدود المنطقة الحضرية عن حدود الريف نتيجة تداخلهما مع بعضهما البعض .
مع سيادة العولمة ، واعادة تشكيل المدن واستعمالات الارض فيها و ما تقدمه لقاطنيها من خدمات حضارية ، لم يعد هناك فرق كبير بين المدن التي لم تتميز سابقا بشخصية معينة . وفي العديد من الدول ، المتقدمة والنامية ، بدا الريف يعرض خدمات يفتقدها سكان المدن ، فاضحت بعض المناطق الريفية واجهات سياحية ، تنظم اليها الرحلات السياحية من قبل شركات السياحة ، وقد تميزت بعض المناطق الريفية بمنتجاتها (الزراعية و الصناعة اليدوية و المنزلية) و اساليبها لجذب السياح ، و تسويق ما تنتجه محليا الى السياح مباشرة . وبعض المناطق الريفية فتحت ابواب مزارعها للسياح للتمتع بعملية قطف الثمار التي يريدون شرائها بانفسهم . وهذا ليس حصرا للسياح ، بل ولسكان المدن والقرى القريبة ايضا ، للتمتع بجمال المزرعة وما تحتويه من مظاهر طبيعية Landscape يفتقدوها ، وكتغيير في روتين الحياة اليومي للعائلة .
قيل سابقا : بامكان العراق بارثه الحضاري ان يستغني عن البترول وموارده (خيره لغيرنا) . يضاف الى الارث الحضاري هناك ارث ديني منوع الاطياف والاعراق ، ولا ننسى التنوع الطبيعي الكبير جدا في البيئات التي لم تستثمر لذاتها (غنية جدا بمظاهر جيمورفولوجية). وقيل ايضا ان ارض العراق كحاوية عريضة (صينية) فرطت بها مسبحة كبيرة ، في كل زاوية تجد حبة من هذه المسبحة (الاثار التاريخية – والدينية) . بدأت في العراق مؤخرا ، ملامح سياحة ريفية ، من خلال تحويل بعض البساتين الى مرافق سياحية (بغض النظر عن الاسباب الموجبة لذلك) تستاجر من قبل العوائل . وهذا شيء جميل جدا ، و لكنه ما يزال دون المطلوب : كما ونوعا . كما ان هناك سفرات منظمة الى الاهوار والى نواعير الفرات ، والى اثار الحضر ، وغيرها من مرافق سياحية فريدة من نوعها يمكن ان تطور و تكون مجالا لجذب السياحة والترفيه .
ومع الكم الهائل (غير المنطقي والمعقول) من الجامعات الحكومية والاهلية التي ملأت ارض العراق من شماله الى جنوبه ، نحن بحاجة ماسة لان تمارس هذه المؤسسات دورها في خدمة المجتمع عمليا ، دراسة ما يعاني منه من ظواهر و مشكلات طبيعية واجتماعية و بيئية ، و تقديم المقترحات العملية للمعالجة . فمؤسسات الدولة عاجزة عن ذلك لانشغالها في الامور الروتينية وتلبية متطلبات المسئولين . العراق منظم اداريا كمحافظات ، التي تتكون من اقضية ، التي بدورها تضم نواحي ادارية اصغر . بافتراض ان كل جامعه تعد اقليمها الوظيفي قضاء معين ، لتركز عليه في دراساتها وابحاث ملاكها العلمي و مشاريع طلبة الدراسات الاولية والعليا فيها ، حينها ستؤدي الجامعات دورها المهني و الوطني بامانة واخلاص ، و ستعرض امام المسئولين المشكلات التي تعاني منها المنطقة مع مقترحات للمعالجة .
وبما ان التوجه العلمي – المهني العالمي يركز على تداخل التخصصات و تعاونها في دراسة المشكلات والعقبات التي تواجه الدولة و مؤسساتها والمجتمع و البيئة ، فمن الضروري جدا ان يخرج التدريسي من قوقعة التخصص و غرفة المحاضرات المغلقة الى ميدان البحث العلمي المتداخل التخصصات ، المشترك بين العلوم الطبيعية والبشرية والبيئية . و لخريطة الاقليم الوظيفي للجامعه (محافظة ، قضاء ، ناحية) دور اساسي في تحديد ماهية الدراسات المطلوب انجازها و طبيعة تشكيلة فريق العمل ، و الهدف المنشود من مشروع الدراسة . بهذا السياق ، يمكن للجامعة ، اضافة الى ترسيخ مكانتها العلمية – الوطنية ، ان تغربل حملة الشهادات ضمن ملاكها الوظيفي ، وان تستحدث وحدات ومراكز بحثية ، التي بدونها تبقى الجامعة مؤسسة تعليمية (متخلفة عن اقرانها) .
عود الى السياحة الريفية و استدامة الريف ، الحياة منظومة System ، متفاعلة ذاتيا (تتفاعل عناصر المنظومة مع بعضها البعض بشكل متكامل لكي تنجز المطلوب منها )، وفي الوقت نفسه فالمنظومة منفتحة على البيئة المحيطة بها وتتفاعل معها ، ان اي شيء في هذه البيئة يؤثر سلبا و \ او ايجابا بمجمل عمل المنظومة و دور عناصرها فيها . فالريف كعنصر من عناصر منظومة الحياة في الاقليم الوظيفي (للجامعة) بحاجة الى ان يكون مكافئ للعناصر الاخرى (المدينة) في المنظومة كي يعمل باتساق وايجابية . و تطوير الريف واستدامته لا تتم الا باستدامة مدن الاقليم ، و العكس صحيح ايضا . و تعتمد استدامة الريف كليا على الحركة المتبادلة (المكوكية) بين المدينة وريفها المجاور . بهذه النظرة الموضوعية تكون قرارات الدولة ، و المؤسسات التخطيطية فيها (عند تنفيذها) سليمة مؤدية الى التطور الاقتصادي والاجتماعي ، والارتقاء الحضاري ، ومؤديا الى الاستدامة المنشودة للاقليم باكمله .
لا وجه للمقارنة بين واقع الريف في العراق و الريف في دول العالم المتحضر ، و السياحة الريفية هناك قد قطعت شوطا بعيدا ، بحيث لا توجد فروقات حادة بين الاثنين ، عدا المظهر الارضي : مبان اسمنية مقابل نباتات خضراء . ومع هذا ، بقي هناك حيز للمقارنة والتميز ، بما يجذب المستهلك و السائح . فعلى سبيل المثال لا الحصر ، في المطاعم هناك اسماء مشهورة لها سمعتها ومكانتها تعتمد الانتاج الكبير Mass production ، يقف امامها بتحدي وشموخ اعلان بسيط لمطعم صغير : طبخ امي Mum cocking . يكمله شارع مخصص للاكلات الشعبية و بمحلات ومطاعم محلية متنقلة و مؤقتة . وبالنسبة للسلع الاخرى فان ما تنتجه الاسر يدويا من حياكة و تطريز و غيرها من منسوجات لها شعبيتها الكبيرة ، سواء في الريف او المدينة . وفي تركيا تقوم النساء بممارسة هذه المهام امام السواح لجذبهم و كدعاية لمنتجاتهم .
في اوربا ، مازالت هناك ظاهرة الاسواق المتنقلة ، كل يوم في مدينة صغيرة او قرية ، وبالاضافة الى عملية التسوق تمارس فعاليات فنية وثقافية ذات صلة بالمدينة نفسها ، عرض لفولكلورها . ورواد هذه الاسواق يردون اليها من مختلف الاماكن والمناطق لاغراض التسوق و الترفيه والتسلية . فمتعة التسوق ، باسعار ارخص من متاجر المدن و مولاتها ، و الاكلات الشعبية ، و النشاطات المنوعة لمختلف الاعمار تجذب الكثيرين ، وبشكل دوري تقريبا . ما نفتقده في مدننا التي تلهث وراء موضات العولمة واساليبها الدعائية ، الاكلات الشعبية و المنتوجات التراثية . قد نجد بعض منها في المدن ، ولكن كي لا تندثر ، هي بحاجة الى تنشيط و دعم لتعود الى الحياة اليومية ، و تعيد لنا هويتنا التي كدنا نفقدها بسبب عولمة حياتنا الخاصة .
ما زال البعض ياكل الباقلاء بالدهن ، و يحب كبة السراي و مثيلاتها ، والباجة و ملحقاتها ، وتتفنن المطاعم في تقديمها بطرق (شبه حضارية) ، ولكن خبز التنور (ابو الحطب) مفقود ، و الدهن الحر نادر ، اضافة الى اكلات منسية يجهلها الجيل الجديد ، مثل الخميعة و محروك اصبعه وغيرها . حتى منتجات المحلات الكبرى من المعجنات لم تصل بجودتها وطعمها الى ما كانت امهاتنا تقدمه من كليجة و خبز عروك وغيرها (كانت تقدم عصرونية) مع الشاي . نعم كل شيء تغير ، ولكن لنبق نكهة الماضي حاضرة في حياتنا اليومية ، ليس في الاكل فقط ، بل بالملبس والاثاث والعلاقات العائلية والاجتماعية ، عسى ولعل تعود طيبة اهل الماضي معها Who knows .
لقد درست مدننا كثيرا ومن مختلف الجوانب و الزوايا ، وكانت حصة الريف ضئيلة جدا ، وحتى مشاريع دراسة اقليم المدينة ركزت على المدينة وليس الريف . هدفي هو تنشيط الريف كمكان للترويح و الاسترخاء ولممارسة بعض النشاطات ، وان يثار الموضوع من خلال مشاريع بحثية من الجامعات المحلية . وممكن ان يكون عنوان مشروع الدراسة (ريف قضاء …… وامكاناته السياحية : دراسة في الجغرافية التطبيقية) . وافضل استخدام مصطلح السياحة بدلا عن الترويح كي لا يساء الفهم و تثار مشاكل نحن في غنى عنها . المشروع ميداني صرف ، يتطلب صبرا و طولة بال ، ومتابعة مباشرة من المشرف و القسم العلمي .
مشروع البحث هذا ، يعد ضمن الجغرافيا الاقليمية (طبيعية وبشرية ) ، او جغرافية الريف اذا تجاوز مدن منطقة الدراسة ، ولكن منحاه تطبيقي Applied ، ((والجغرافيا التطبيقية ليست فرعا من فروع الجغرافيا)) ، و مضمونه (مادته ) مرتبط بجغرافية ثقافة منطقة الدراسة و توجهها نحو السياحة المحلية (الترويح والاستجمام) . فهو يربط الماضي بالحاضر ليعكس صورة لمنطقة الدراسة يمكن تسويقها ضمن جغرافية السياحة . لذا وددت التوضيح كي لا يكون هناك لبس في التخصص العلمي . وفوق كل هذا ، يستوجب المشروع باحثا حريصا و امينا ، وله القدرة على الحركة والتنقل بين ارجاء القضاء \ الناحية و التواصل مع افراد المجتمع المعني بكل طوائفه و شرائحه .
على الباحث ان يتقصى الاجابة عن الاسئلة المبينة في ادناه ويتحراها بامانة وصدق و صبر:
- ماهي الامكانات المحلية التي يمكن استثمارها للاغراض السياحية و الترويحية ؟
- الاثار التاريخية
- المراقد الدينية
- المظاهر المورفولوجية (نهرية و غيرها) التي يمكن ان تعتمد لاغراض السياحة والترويح
- المؤسسات الانتاجية (حكومية و اهلية) التي يمكن زيارتها و التسوق منها
- الى اي درجة يستجيب الاهالي لزيارة الاخرين لمنطقتهم ؟ (استبيان باسئلة تفصيلية)
- هل بالامكان تخصيص يوم معين لقيام سوق عام لزيارة الاخرين من مناطق اخرى ؟
- هل هناك منتجات محلية – منزلية يمكن عرضها للبيع في السوق ؟ (خبز تنور حطب ، طرشي ، كليجة ، معجنات ، بسط و فرش و ماكولات معينة ، وغيرها)
- هل يسمح اصحاب البساتين و المزارع للسياح بقطف المحصول بانفسهم قصد بيعه لهم ؟
- هل يتقبل الاهالي اقامة مشاريع ترويحية في المكان المخصص للسوق ؟ او قريبة منه ؟
- ماهو الموقع الامثل للسوق المقترح ؟ ولماذا ؟
- هل سيقدم الاهالي عرضا فولكلوريا او نشاطا ثقافيا ايام السوق ؟ وما طبيعته ؟
- هل يرى الاهالي ان مثل هذا المشروع سوف يقدم للمنطقة خدمة في مجال تحسين : الطرق ، المستوى الاقتصادي ، النشاط الاجتماعي ، النشاط الفكري …. الخ ؟