جدلية المكان وموقعه النسبي
المكان ، اي كانت طبيعته وموقعه ، ما الذي يحدد قيمته ؟ فبالاضافة الى اهميته التي ياخذها من خصائصه وسماته الذاتية ، له ما يعزز او يقلل من قيمته ، انه موقعه النسبي بالنسبة للاشياء و الاماكن والمواقع الاخرى . وقد لا يتغير المكان ، ولكن قيمته و اهميته تتغير بما يجري حوله ، او بالسمات والخصائص التي تضاف اليه او يحتويها . فالمكان ثابت في موقعه \ في مكانه ، ولكن اهميته النسبية هي التي تتغير ، وهذه سنة الحياة . فالسكون لكل شيء يعني الموت .
مثال بسيط ، لو بنى احدهم دارين متشابهين معماريا في كل شيء عدا موقعهما ، فهل نتوقع ان تكون قيمتهما التجارية واحدة ؟ وأن يكون الطلب عليهما متساويا ؟ بالتاكيد لا ، فتوفر الخدمات والمنافع العامة والبنى التحتية الاساسية في المنطقة سيحددان الفرق في الطلب وفي القيمة المادية . يضاف الى ذلك اثر موقعهما من الشارع (ركن ، وسط) وطبيعة استعمالات الارض فيه (صناعية ، تجارية ، مختلطة ، سكنية) .
ولو قام شخص اخر ببناء بيتين متجاورين بالمواصفات المعمارية نفسها ، وقام بتجهيزهما بالمستلزمات والاثاث نفسها ، واسكن فيهما ابنتيه اللتين تزوجتا حديثا . و لسبب ما سافر بعيدا وعاد لزيارتهما بعد سنة ، فهل سيجد تباينا بين البيتين ؟ ام لا ؟ ولماذا ؟ المكان نفسه لم يتغير ولكن سماته تبدلت ولو جزئيا نتيجة تباين الاهتمامات و مدى الجدية في المحافظة على النظافة والترتيب و اختلاف الاذواق . وقد تتدخل ظروفا اقتصادية او نفسية او اجتماعية كعوامل خارجية لاحداث التغيرات الملاحظة وتعجيلها .
سوق المدينة ، خلال عقد من الزمان ، او اكثر ، تبقى المنطقة التجارية ضمن التصميم الاساس للمدينة ، ولكن بؤرتها تحركت (زحف المنطقة التجارية) ، فتركت ورائها مجالا للتغيرات التي قد لا ينتبه لها الا المختص والمتابع لامر السوق . فنوعية الوظيفة التجاري قد تغيرت ، البنية الوظيفية لها سايرت التطورات الحاصلة في السوق العالمية و لهثت وراء الجديد من التقنيات العصرية . التغيير شمل ايضا ، او لنقل بدأ ، بسعر الارض و ايجار المحال التجارية في هذا السوق . مكان السوق بالنسبة للمدينة لم يتغير ، ولا وظيفته الرسمية ، ولكن قيمته التجارية و الحضارية قد تبدلت مسايرة للزمن . وكما هو معروف ، لكل شيء دورة حياة ، كائن حي او جماد . ولكل مرحلة من مراحل الحياة سماتها و خصائصها و قوتها ومكانتها \ قيمتها الذاتية والموضوعية .
وبؤرة السوق التجارية (منطقة 100%) ، يتم التنافس للحصول على موطئ قدم فيها ، رغم ارتفاع اسعار الارض فيها و شدة المنافسة عليها ، والسبب لتبوأ مكان الصدارة تجاريا . وهذا صحيح في فترة زمنية محددة ، وذلك لان هذه البؤرة ستتحرك بفعل عوامل داخلية وخارجية تحدد اتجاه الحركة وسرعتها ، وهكذا يستمر اللهاث للحصول على موقع في المكان الجديد .
ضواحي المدن واطرافها الحضرية ، كانت رغبة السكن فيها فقط لمن تتوفر له سهولة الانتقال منها واليها (للعمل ، للتسوق ، وغيرها من امور الحياة اليومية) . الان ، بعض هذه الضواحي ، وبسبب انتقال الاسواق الكبيرة (المولات) و مدن الالعاب ، والمشاريع التجارية والخدمية التي تعتمد التقنيات العصرية ، اصبحت محط انظار العديد من الاشخاص والاسر والمطورين . فاسعار الارض فيها انقلبت راسا على عقب ، نتيجة هذه التغييرات في استعمالات الارض . فالمكان بقي نفسه ، ولكن بيئته (العمرانية ، الاقتصادية ، الاجتماعية ، السياسية) قد تغيرت . يقابل ذلك التغيرات (في كل شيء) في مركز المدينة و داخلها . مقارنة بسيطة بين الاثنين (المركز والاطراف) عبر فترة (10 – 30) سنة في مختلف جوانب حياة المدينة وتركيبتها الاقتصادية والاجتماعية والسكانية (الديموغرافية) توضح ما نرمي اليه . لنستخدم الصور الذهنية التي نمتلكها لهما و نحكم بانفسنا على المكان وقيمته النسبية .
بالجانب الاخر ، المعنى الاخر للمكان غير العمراني ، ما هي قيمة المكان (المنصب) ؟ بموقعه الوظيفي ؟ ام بشاغله ؟ ام بالمطبلين و الراكعين حوله ؟ وما طبيعة التنافس عليه ؟ والى اي مدى يبقى المكان (المنصب) لشاغله ؟ جوانب يتجاهلها ذوي المناصب ، وتشغل فكر المتضررين من سوء استخدام الموقع و الغلو في اهميته النسبية . يضاف الى ذلك ، التغيرات في الهيكل الاداري تؤثر بطريقة واخرى على تراتب اهمية المواقع \ الاماكن \ المناصب . فلا شيء ثابت .
عندما كنت صغيرا كنت معجبا بتلسكوب ورقي يحتوي اوراق منشورية مثلثة ملونة تتحرك مع حركة الناظور Kaleidoscope . اكتشفت لاحقا ان حياتنا ضمن هذا الكاليديوسكوب …. فالالوان تتحرك و مواقعها تتغير اماكنها ، و نظرتنا تتبدل ولا شيء ثابت في مكانه او حالته . عرفت ان الحياة في الحركة وليس في السكون ، فالسكون يعني انتهاء الدورة و الانتقال الى دورة اخرى . فلنتعض لما بقي من العمر .