الرئيسية / مفالات للحوار الفكري / كورونا في المنظور الجغرافي

كورونا في المنظور الجغرافي

كورونا في المنظور الجغرافي

 

نتيجة البحث والتقصي و العمل الدؤوب فيهما يصبح منهج البحث العلمي اسلوب حياة للباحث ، فهو يبرمج سلوكياته ليصل الى الهدف ، ويسعى لمعرفة الاسباب و العوامل المؤثرة ، ويستشف المتوقع منها . بعبارة اخرى ، لا شعوريا يحاول الربط بين الاشياء ، المعلومات ، المؤشرات التي يمتلكها لرسم صورة تقارب الواقع . ما ساطرحه هنا مجرد افكار جغرافية وردت الى ذهني عن كورونا ، موضحا المجالات الجغرافية التي يمكن ان تتأثر بها ، او لها علاقة بها . بعبارة اخرى ، غطت كورونا العالم باسره كوباء ، الى اية درجة سيتباين اثرها على شعوب العالم ؟ ولماذا ؟ وهل سيتختلف الاثر من حيث الكم ؟ النوع ؟ ام الاثنين مع بعض ؟ وهذا ما اسميه بالمنظور الجغرافي لاثر كورونا على العالم .

(1)  نظرية مالثوس عن عدم التوازن بين قدرة الارض على الاعالة نتيجة تزايد عدد السكان و الضغط بشكل كبير على الموارد الطبيعية الناضبة . فالسكان يتزايدون وفق متوالية هندسية (1 – 3 – 9 – 27) ، و قدرة الارض وحتى بعد معالجتها وتحسين ظروف الانتاج فيها تزداد وفقا لمتوالية عددية (1 – 2 – 3 ) ، وبهذا يبقى الفرق كبيرا و يتسع من الزمن . الحل حسب هذه النظرية : المجاعة ، الفقر ، الحروب  . فرغم التحسن الكبير في اساليب الزراعة و استصلاح الاراضي مازالت هناك مجاعات في العالم ، وللتحكم السياسي – الاقتصادي في سوق الغذاء دوره اضافة الى الموازنة بين الانتاج والاستهلاك . بعبارة اخرى ، الحرب و المجاعة و الفقرهي الاساليب التي تعتمد للتخفيف من الفارق بين قدرة الارض على الاعالة و الزيادة السكانية.

(2)  نتيجة قوانين حماية البيئة في الدول الصناعية ، و توجه دول العالم النامي الى التصنيع فقد تم بيع او تحويل الكثير من الصناعات الملوثة والتي تعتمد الايدي العاملة بكثافة الى الدول النامية . بهذا اصبح للدول النامية الدور الرئيسي في تلوث البيئة و الاحتباس الحراري  . نتيجة المستوى الحضاري لشعوب الدول الصناعية فقد فرضت قوانين و حددت ضوابط على الانبعثات الملوثة للهواء والماء والارض . وفي الوقت نفسه حثت الدول النامية للتصنيع ، وشراء الصناعات التي هجرتها الدول المتقدمة . يعني هذا ، ان مصدر التلوث والاحتباس الحراري قد نقل مكانيا من دول متقدمة الى دول نامية السيطرة فيها على البيئة و ملوثاتها هامشية . بعبارة اخرى ، الوضع الصحي متدني في الدول النامية ، مما يجعل شعوبها عرضة للاوبئة والامراض ، وحيث تكون الاصابات ، ومن ثم الوفيات ، كثيرة ولمختلف الفئات العمرية .

(3) بتسارع التحضر في الدول النامية مع فقدان السيطرة على استعمالات الارض  فيها ، وغياب التخطيط السليم فقد اتسعت مدن العالم الثالث ونمت بتضخم كبير فاصبحت اسوأ البؤر من النواحي البيئية والصحية والاجتماعية  . فقد اكدت الدراسات على ان النمو الحضري غير المنضبط يعد اساسا للكثير من المشاكل الراهنة : نقص الاراض الصالحة للزراعة ، التصحر ، الفقر و المجاعة ، التدني البيئي والصحي ، تخلف البنى التحتية ونقص في توفير المياه الصالحة للشرب ، البطالة ، الجريمة والانحراف ، و غيرها .  يضاف الى ذلك اعتماد وسائط نقل ملوثة بطبيعتها للجو مما يفاقم الوضع البيئي سوء . ومثل هذه البيئات تعد مرتعا للجراثيم والاوبئة.

(4) كورونا وغيرها من الافات والمخاطر الطبيعية ستغير العالم باكمله : اقتصاديا و اجتماعيا وسياسيا وبيئيا . فالعالم مقبل على تغيير كبير تدريجي احيانا و مفاجئ احيانا اخرى  .  فالعالم اليوم قرية واحدة ، ما يحدث في جزء ينعكس سلبا او ايجابا على الاجزاء الاخرى . وقد رسمت شركات العولمة استراتيجيات بعيدة المدى لتتحكم بالعالم من جميع النواحي . ولعل كورونا احد سياسات التغيير والسيطرة على العالم.

(5) الشركات الراسمالية الكبرى ، المالية منها على وجه الخصوص ، لها اليد الطولى في رسم الملامح الجغرافية المستقبلية . فهذه الشركات خرجت من قمقم دولها لتحكم العالم بجميع طوائفه وملله و تنظيماته . والله يستر من مخططاتها الشريرة (اقلها الاقتراض والديون الكبيرة ) . عندما كانت الشركات ضمن حدود الدولة الواحدة كانت ملزمة بقوانينها ، ولكنها بعد ان تعددت جنسياتها و توزعت نشاطاتها على اكثر من دولة خرجت من القمقم فاصبحت الدول تسايرها للحفاظ على مصالحها . فمن يحكم العالم الان هي الشركات وليست الدول . وهذه الشركات لها استراتيجتها الواضحة  وهدفها : حكم العالم واخضاعه لمصالحها .

(6) صناعة الازمات ، عالميا ومحليا ، هي من الاساليب المتبعة حاليا للسيطرة وتنفيذ المخططات ، بجميع انواعها ومستوياتها والوانها  . وقد استحدثت مقررات دراسية في العديد من الجامعات بهذا العنوان ولهذا الغرض ، و اعتمدها البنك الدولي عند تقييم العاملين فيه والمتعاملين معه . فلا شيء يحدث فجأة ، وليس هناك عشوائية (حدوث شيء لا صلة له بما سبقه او تبعه) في الاحداث السياسية او الاقتصادية او البيئية . فكل شيء متوقع و له حساباته المسبقة .

(7) التغييرات الديموغرافية بجميع انواعها (مكانيا و نوعيا) هي من اساليب تحقيق الاهداف المرسومة مسبقا  . فهناك دول تعاني من ارتفاع نسبة المسنين ، واخرى من نسبة الاطفال ومن هم في سن الاعالة ، واخرى تعاني من مشاكل التنوع العرقي او الطائفي . هنا ياتي دور الاوبئة والمجاعة والفقر لتقليم الهرم السكاني و اعادته الى وضعه الطبيعي .

(8) الاحتباس الحراري و التصحر اساسه الغرب و نتائجه على العالم باكمله ، و الان يتحمل الوزر الاكبر العالم الثالث كما اشير في الفقرة (3) اعلاه  .بمعنى ان العالم الثالث سيتحمل أسوأ نتائج انتشار كورونا ، سواء اعلن ذلك ام لا ، صدقت البيانات الرسمية ام اخفت الحقيقة . فشعوب دول العالم النامي هي اكثر هشاشة امام الامراض ، وهي الاقل التزاما بالتعليمات ، وهي اكثر حرصا على التمسك بتقاليد وعادات بالية لا تنسجم مع الظروف المستجدة . بعبارة اخرى : البقاء للاصلح ، لمن وضعه الصحي يقاوم الامراض والاوبئة ، و وضعه المادي يؤهله للحصول على المعززات و الواقيات .

(9) التعليم اسلوبا وهدفا قد اعيد النظر فيه في الدول (العظمى) منذ مطلع القرن 21 ، والدول النامية مازالت تتخبط بمناهج متخلفة من جميع النواحي  . اي ان الجهل والتخلف العلمي والحضاري سيزداد في البلدان النامية مما يوسع بشكل كبير الهوة بينها و الدول المتقدمة . وكلما زادت الفجوة زادت مستويات التحكم عمقا وقسوة واذلالا .

(10)  العالم بيد عفريت (دهاقنة راس المال) ، والكرة الزجاجية (لرؤية المستقبل) بيد الاعلام الموجه ، والمواطن يشد الحزام الى ان ينقطع النفس او الحزام ….. وقد برهن الاعلام على طبيعة انتماءه ونوعه خلال ازمة كورونا ، فما قيل امس نفي اليوم ، وما صرح به اليوم سيعارض بشيء اخر غدا ، وهكذا يبقى المواطن (وحتى الحكومات) في دوامة Pig in the middle ، لعبة يوضع فيها خنزير صغير في وسطة حلبة حولها الاطفال يضربون بارجلهن ويصفقون بايديهم و الخزير يدور ويدور ويدور الى ان يسقط في الوحل . هكذا هو حال العالم اليوم في عصر العولمة ، شئنا ام ابينا .

 

هذا هو فهمي للوضع كجغرافي لنتائج وباء كورونا ،
واتمنى ان اكون مخطئا ، والله ولي التوفيق وهو ارحم الراحمين .

 

 

عن الدكتور مضر خليل عمر الكيلاني

متقاعد حاليا ، ارحب بكل من يحتاج مساعدة للتعلم واكتساب خبرة في البحث العلمي ، والجغرافيا بشكل خاص ، وكلي استعداد لتقديم يد العون ، لوجه الله .

شاهد أيضاً

رسائل جامعية في الفكر الجغرافي

رسائل جامعية في الفكر الجغرافي أ.د. مضر خليل عمر نتيجة الكم الهائل من الساعين للحصول ...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *