الرئيسية / فكر جغرافي معاصر / الجغرافيا : بين العلوم الصرفة و الانسانيات

الجغرافيا : بين العلوم الصرفة و الانسانيات

الجغرافيا : بين العلوم الصرفة و الانسانيات

أ.د. مضر خليل عمر

          يبدو ان الجغرافيا (طلسم) حير المختصين قبل غيرهم ، ومرد ذلك ثنائية الجغرافيا (الربط بين البيئتين الطبيعية والبشرية وتفاعلهما المتبادل وتباينهما مكانيا) . لهم العذر في ذلك ، فالجغرافيا على تماس مع العلوم جميعا . ولان طريقة تدريسها ، والتدريب عليها لا توحي بوحدة الموضوع ، فانجرار المختصين بالجغرافيا الطبيعية وراء تقنيات العلوم المشتركة في دراسة الموضوع (الظاهرة \ المشكلة قيد الدرس) و تجاوزهم للجانب البشري (التطبيقي) في الاختصاص قد اوحى للبعض انه من الافضل فصل الجغرافيا الطبيعية عن الجغرافيا الام (البشرية) ، والانغماس في التقنيات دون الهدف الجوهري : خدمة المجتمع البشري . فموضوعات الجغرافيا علمية باهداف انسانية (تطبيقية) .  فالخلل كامن في طريقة التدريس (كصة بقلاوة – وحدة المناهج وغياب شخصية القسم العلمية) وفي التعامل المهني (التدريس بدرجة كبيرة واساسية) مع موضوعات الجغرافيا .

في الجامعات البريطانية ، على وجه التحديد ، يشترك قسم الجغرافيا في المبنى مع القسم الذي يشترك معه في الاهتمامات و التوجهات العلمية : علوم البيئة ، علوم الارض ، العلوم الاجتماعية ، التخطيط والتنمية ، العلوم السياسية ، العلوم الاقتصادية . والقصد من الاشتراك في المبني هو تسهيل عملية تنظيم جداول المحاضرات (المشتركة) و استخدام المختبرات و التسهيلات العلمية المتوافرة . وعندما يقدم الطالب للدراسة الجامعية فانه يعرف مسبقا ماذا يريد ان يعمل وظيفيا في المستقبل ، ويختار المقررات الدراسية التي تؤهله لذلك بمساعدة الاستاذ المشرف و في اختيار مشروع بحث التخرج (الذي يقدم لاغراض التعيين الوظيفي) . لذلك الدراسة الجامعية هناك لثلاث سنوات ، يحق للطالب ان يكملها بسنة رابعة في التخصص المهني : التدريس مثلا بعد دورة مكثفة لتسع اشهر او اكثر . اذن الاختلاف بيننا وبينهم في النظام التعليمي (ثانوي وجامعة) .

من الجوهري التسائل : ماذا يحتاج طالب الجغرافيا معرفته ليكون باحثا متمكنا في تخصصه ، ومؤهلا للعمل في فرق بحثية متعددة التخصصات الاكاديمية ؟ وهل ما يحتاجه من معرفة وخبرة (مكملة ومعمقة لتخصصه الجغرافي) تعد من الانسانيات ام من العلوم ؟ هنا تكمن العبرات .

  • الجغرافي يتعامل مع البيانات (الارقام) في جميع تخصصاته الفرعية ، ومعالجة الارقام وتحليلها من اختصاص علم الاحصاء ، فهل علم الاحصاء من الانسانيات ؟
  • الجغرافي يتعامل مع الخرائط ، بكل صغيرة وكبيرة (قيل : ما لا يرسم بخريطة ليس بجغرافيا) ، وعلم الخرائط (الكارتوكرافي) وعلم المساحة ، والعلوم التخطيطية ليست من العلوم الانسانية .
  • الجغرافي (اليوم) لا يستغني عن نظم المعلومات الجغرافية و الاستشعار عن بعد ، وكلاهما ليسا من العلوم الانسانية ، ويتعامل معهما في جميع تخصصاته الفرعية .
  • الذبذبات المناخية والتغيرات المتوقعة ، على مستوى العالم ، اجبرت الجميع على النظر الى المشاكل المحلية كونها جزء من مشكلة كوكب الارض ومستقبله ، و ان تاثيراتها ليست محدودة مكانيا وزمانيا : طقس ، موارد مائية ، زراعة ، تجارة ، تخطيط وتنمية ، سياسة ، ….. والجغرافي معني بها في اكثر من تخصص فرعي .
  • المشكلات المجتمعية : الاقتصادية ، الاجتماعية ، النفسية ، الادارية ، الخدمية ، تعتمد نظريات و ونماذج رياضية ، وعمق في التحليل المنطقي ، وجميعها لها ابعادها المكانية ، التي لا يمكن معالجتها بدون الاخذ بالتباين المكاني ، الذي هو جغرافيا ، فهل هذه العلوم من الانسانيات ؟
  • يعتمد الجغرافيون تحليل النظم System Analysis و تحليل الشبكات Neural network وتطبيقات قانون الجاذبية Gravity model و Multivariate techniques   وMathematical models والكثير غيرها من التقنيات المعمقة و المعقدة ، وبالتاكيد هي ليست من موضوعات العلوم الانسانية ولا من تقنياتها .

لو قيد القبول في اقسام الجغرافيا في الفرع الادبي ، حينها سنحرم الجغرافي من القدرة على التحليل المعمق ، والاشتراك في مجالس بحثية علمية متعددة التخصصات ، وبالتالي من الفائدة العلمية الحقيقية من خريجي اقسام الجغرافيا في الميادين التطبيقية ، لينحسر دورهم في التدريس فقط . فهل هذا منصف ؟ وهل سيؤدي هذا الى تطوير الاختصاص و المختصين به ؟ وهل يخدم المجتمع و تقدمه ؟ تساؤلات للجغرافيين انفسهم ، ولمن بيدهم ناصية التعليم العالي ، والله ولي التوفيق ، وهو من وراء القصد .

 

عن الدكتور مضر خليل عمر الكيلاني

متقاعد حاليا ، ارحب بكل من يحتاج مساعدة للتعلم واكتساب خبرة في البحث العلمي ، والجغرافيا بشكل خاص ، وكلي استعداد لتقديم يد العون ، لوجه الله .

شاهد أيضاً

القاسم المشترك الاعظم

القاسم المشترك الاعظم أ.د. مضر خليل عمر           لا اعرف كيف اصف راي وسلوك البعض ...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *