لقد اثارني ما عرضه وزير الزراعة من عدم امكانية الزراعة خلال الاشهر القليلة القادمة (مسئول بمكانه الصحيح – بارك الله في من اختاره و كلفه) ، من جهة ، ومن جهة اخرى ما يطرحة النتن ياهو عن الكابوس الذي ارق نومه (من النيل الى الفرات) . ولان مشكلة الفرات ذات جذور تاريخية ومعطيات اعمق و ابعد مكانا و اثرا ، ولاني اقرأ حاليا كتابات في الجغرافيا التطبيقية تتعلق بالماء و الري فاحببت ان اعبرعن مشاعري وراي بالموضوع . لست مختصا بالري (لا اكاديميا ولا مهنيا) ، ولكن كجغرافي تبقى مشكلة الري تمس اختصاصي العام قبل الخاص كونها ذات ابعاد مكانية و مؤشر اقتصادي – اجتماعي – سياسي مهم ، ومؤثر جدا في حياة المجتمع اولا و مستقبل البلد ثانيا . ساعتمد في كتابة هذا المقال ما هو تحت اليد حاليا ، فصل بعنوان (الري) في كتاب منهجي عن الجغرافيا التطبيقية ((في هذا الكتاب ثلاث فصول تتعلق بالمياه : جودة المياه والتلوث ، إمدادات المياه وإدارتها ، الري)) ، وسانقل فقرات مختارة ، مترجمة بتصرف ، من هذا الفصل مع التعليق عليها حيثما يتطلب الامر .
- ]]لقد عرف (ريدزوسكي ووارد، ١٩٨٩) الري بانه : اضافة الماء الى التربة لتوفير رطوبة تربة شبه مثالية لنمو المحاصيل في المناطق التي تعاني من ندرة المياه . وان الحاجة الى الري تزداد طرديا مع زيادة الجفاف في المنطقة الجغرافية[[ .
وها نحن نعاني من احتباس حراري و تصحر و ندرة مياه في الوقت نفسه ، فالحاجة حاليا ، الى ادارة عقلانية للموارد المائية لا تقل اهمية عن الحاجة الى جيش مدرب مؤهل للدفاع عن الارض والعرض ، و انهاء الاحتلال .
- ]]ويعرف الجميع ان المياه مورد محدود ، وبمجرد ضخها ، لن يتم تعويضها على المدى القصير ، فاستدامتها تتطلب تخطيطا مسبقا ، و دراية عميقة بابعاد المشكلة و التهيئ لها قبل وقوعها ، خاصة و أن الطلب على المياه لأغراض الري قد ازداد بشكل هائل في السنوات الأخيرة مع ازدياد أعداد السكان وارتفاع مستويات المعيشة ، على الأقل في المناطق الحضرية [[.
لقد كتب احمد سوسة عن مشاريع الري التي كانت عصب الحياة و سبيل الرقي الحضاري في المنطقة عبر التاريخ ، وكتاباته نامت على الرفوف العالية ، و غطتها الاتربة و العناكب . يضاف الى ذلك ، التوسع العمراني و الحراك السكاني خلال عقد الثمانينات من شرقي العراق (ضفاف دجلة) الى غربيه (ضفاف الفرات) ، مما جعل منطقة الفرات الاوسط من اكثف مناطق العراق سكنا و زراعة . فهل المطلوب حركة تعيد السكان الى حيث كانوا قبل نصف قرن ؟
- ]]ويبدو أن النزاعات على المياه ستزداد . يزعم البعض أن صراعًا مسلحًا على المياه قد يحدث في المستقبل ، بينما يشكك آخرون في هذا التوقع (بومونت 1994؛ ستار 1991). على نهر الفرات ، الأزمة فورية . يقع حوض الفرات في ثلاث دول – تركيا وسوريا والعراق . حتى أواخر سبعينيات القرن الماضي ، كان العراق فقط مستخدمًا مهمًا لمياه النهر . يعود تاريخ استخدام العراق لمياه النهر إلى ما لا يقل عن 5500 عام ، أي إلى الوقت الذي تأسست فيه أولى حضارات الري العظيمة (بومونت 1978) . كان الري الذي مورس قائمًا على الافادة من موجة فيضان ذوبان الثلوج التي هطلت في النهر خلال شهري أبريل ومايو . ومع ذلك ، لم يُسحب سوى جزء صغير من المياه ، وتدفق معظمها دون استخدام في الخليج العربي . ومن الجوانب المثيرة للاهتمام في نهر الفرات أن ما لا يقل عن 88% ، وربما أكثر من 95% ، من تدفق النهر ناتج عن هطول الأمطار على تركيا . أما التدفق المتبقي فيأتي من داخل سوريا ، بينما لا يوفر العراق أي تدفق على الإطلاق . ونتيجة لذلك ، يتزايد الصراع بين دول المنبع والمصب حول استخدامات المياه . فموقف تركيا هو أنه بما أن معظم مياه نهر الفرات ناتجة عن حدودها ، فإن لها الحق في الافادة من مياه النهر كما تشاء . [[
اواخر سبعينات القرن الماضي برزت مشكلة الفرات وتازمت الاوضاع السياسية بشكل حاد حينها ، وكنت ادرس في المملكة المتحدة . طلب مني استاذي ان اكتب عن اثر مشكلة نهر الفرات على التخطيط الاقليمي في العراق . وجهت ثلاث رسائل بالنص نفسه الى سفارات العراق و تركيا و سوريا . جائني جواب السفارة السورية مع مجموعة من التقارير الرسمية ورسالة يطلبون فيها اعادة المنشورات اليهم بعد الانتهاء من اخذ المعلومات المطلوبة . وردتني رسالة من السفارة التركية تطلب مني تحديد ما اريده كي يقوموا هم بترجمته من اللغة التركية الى الانكليزية . لا جواب من السفارة العراقية ، زرتهم وزرت وزارة التخطيط في بغداد و بدون طائل فاعتذرت عن الكتابة عن هذا الموضوع الحساس والحيوي فعلا .
- ]]من ناحية أخرى ، موقف العراق هو أنه بما أنه يستخدم مياه النهر منذ أكثر من 5000 عام ، فله الحق في الاستمرار في استخدامها دون عوائق . مع بناء وافتتاح سد أتاتورك في أوائل تسعينيات القرن الماضي ، أصبحت تركيا مستخدمًا رئيسيًا لمياه نهر الفرات لأغراض الري . وأعلنت تركيا أنها ستضمن تدفقًا لا يقل عن 500 متر مكعب في الثانية من مياه المصب . إلا أن هذا لم يمثل سوى حوالي نصف التدفق الطبيعي للنهر سنويًا ، ولذلك ردت كل من سوريا والعراق ، الواقعتين أسفل النهر، بقوة على هذا الإعلان . لم تكن تركيا مستعدة لتغيير موقفها ، ومضت قدمًا في مشاريع الري في سهل حران والمناطق المجاورة . …. لا شك أن تطوير مشاريع ري جديدة في تركيا وسوريا سيكون له تأثير كبير على الري في العراق . بمجرد تشغيل المشاريع التركية والسورية بالكامل في السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين ، قد لا يتجاوز حجم المياه المتاحة للعراق في نهر الفرات ٥٠٠٠ مليون متر مكعب سنويًا ، مقارنةً برقم بلغ حوالي ٣٠ ألف مليون متر مكعب في أوائل الستينيات ، قبل بدء إنشاء المشاريع على طول النهر . نتيجة لذلك ، سيتعين على العراق التخلي عن مساحات شاسعة من الأراضي التي كان قادرًا على ريها سابقًا . من المؤكد أن هذا سيسبب مشاكل اجتماعية حادة ، حيث لن يتمكن العديد من القرويين على طول نهر الفرات من كسب عيشهم من خلال الزراعة المروية . [[
هل هذا محض صدفة ؟ ام تنفيذ لمخطط مسبق حان وقته وتوفرت الظروف المحلية و الاقليمية و الدولية لتحقيقه ؟ اخلاء المنطقة من سكانها و بيعها (تفصيخ) لمن يدفع اكثر ؟ و لكي يتحقق حلم بني صهيون River of Babylon ؟ واذنابهم العملاء و المأجورن ؟
- ]]من القضايا الرئيسية التي يجب مراعاتها ما إذا كانت الزراعة المروية نشاطًا مستدامًا أم أنها مجرد استغلال للموارد (فان شيلفغارد، ١٩٩٠) . فإن المسألة تتعلق بكيفية استغلال المياه لتحقيق أقصى منفعة للمجتمع[[ .
بعبارة اخرى ، هل هناك رؤية واضحة لوزارة الزراعة (خاصة) ، و الحكومة العراقية (عامة) واستراتيج يبني المستقبل الاقتصادي والاجتماعي للعراق الموحد ؟ ام ان هذا ((في المشمش)) ؟
- ]]ومن الأمثلة التي يُستشهد بها كثيرًا وادي النيل ، حيث يبدو أن الزراعة المستمرة في النقطة نفسها قد استمرت لمئات السنين على الأقل ، إن لم يكن آلاف السنين . ومع ذلك ، فإن سهول نهر النيل الفيضية تتمتع بظروف تصريف مثالية على شكل طبقات من الحصى ، مما قلل من تراكم التربة المالحة . ومع ذلك ، توجد أدلة في أماكن أخرى على أن الري طويل الأمد ، في ظل ظروف بيئية معينة ، يمكن أن يؤدي إلى انخفاض غلة المحاصيل ، حيث يرتفع منسوب المياه الجوفية إلى حد يجعل إنتاج المحاصيل المجدية اقتصاديًا غير ممكن . ربما كان هذا هو الحال في وادي دجلة والفرات (آدامز، ١٩٧٨؛ جاكوبسن وآدامز، ١٩٥٨). من الصعب جدًا تحديد طبيعة مشاريع الري الحديثة بدقة ، إذ إن القليل منها قائم منذ أكثر من 100 عام . ومع ذلك ، يبدو أن العديد من هذه المشاريع تبدأ بنجاح ، لكنها تواجه صعوبات متزايدة بعد سنوات عدة مع تدهور حالة التربة (غاردنر ويونغ 1988؛ تانجي 1990) .[[
الدوامة السياسية المفتعلة منذ ثمانينات القرن الماضي ، ودور دول الجوار (جميعا وبدون استثناء) في اشغال العراق في امور تبعده عن البناء والاعمار ، و الطمع في خيراته وامكاناته الذاتية : البشرية و الطبيعية جعلته يصل الى مرحلة Pig in the Middle ويسقط منهارا لتنهل منه سكاكين القريب والبعيد . لذا اقول ، وملء فمي دم و قيح : ان الفرات هو الشعرة التي قصمت ظهر البعير .. فغربي الفرات اغنى من اغنياء العالم بما يحويه من مكنونات رب العالمين . وسيكشف التاريخ من خانه ومن باعه ومن تلذذ بعذابه والامه . وستبقى شعلة العراق تشوي وجوه وادبار العملاء والخونة في الدنيا وفي الاخرة باذنه تعالى .